رغم تعدد وتنوع بل وتعارض الحالات النفسية التي يمر منها الشخص طيلة حياته، فإن كل واحد منا يحيل باستمرار إلى نفسه بضمير "أنا" بوصفه وحدة وهوية تظل مطابقة لذاتها على الدوام. غير ان هذه الوحدة التي تبدو بديهية تطرح مع ذلك أسئلة عديدة,
بل إن البديهي يشكل الموضوع الأثير والمفضل للفكر الفلسفي. ويمكن القول أن الفيلسوف يصادف إشكالية الوحدة المزعومة للهوية الشخصية في معرض بحثه في الماهيات والجواهر. يتساءل الفيلسوف: إذا كان لكل شيء ماهية تخصه، بها يتميز عن غيره، فهل هناك ماهية تخص الفرد، بها يتميز عن غيره بشكل مطلق؟ خصوصا إذا علمنا أنه ما من صفة فيه، جسمية او نفسية، إلا ويشاطره التخلق بها عدد قليل أو كثير من الأفراد؛ وإذا عرضنا الشخص على محك الزمن والتاريخ، فهل هناك جوهر يظل ثابتا رغم تغيرات الجسم وأحوال النفس وانفعالاتها؟ وهل هذا الجوهر كيان ميتافيزيقي مكتمل التكوين منذ البدأ، أم أنها سيرورة سيكلوجية تجد سندها المادي في الذاكرة، وعملية تطورية تنشأ تدريجيا بفضل تفاعل الفرد مع الغير؟.
أ-ثبات الأنا واستمراريته في الزمان:
موقف ديكارت: التصور الجوهراني الماهوي للهوية الشخصية
نلاحظ أن الفرد يستطيع التفكير في الموجودات الماثلة أمام حواسه أو المستحضرة صورتها عبر المخيلة، ولكنه يستطيع أيضا التفكير في ذاته ، في نفسه هذه التي تفكر!!
يسمى هذا التفكير وعيا وهو نفس الوعي الذي اعتمدعليه ديكارت في " الكوجيطو" وخصوصا وعي الذات بفعل التفكير الذي تنجزه في لحظة الشك أي الوعي بالطبيعة المفكرة للذات التي تقابل عند ديكارت طبيعة الإمتداد المميزة للجسم.
تساءل ديكارت في التأمل الثاني: "أي شيءأنا إذن؟ " وأجاب: " أنا شيء مفكر"
ولكن هل وراء أفعال الشك والتذكر والإثبات والنفي والتخيل والإرادة...هل وراءها جوهر قائم بذاته؟
يجيب ديكارت بنعم : إنها النفس، جوهر خاصيته الأساسية التفكير، أي أن للكائن البشري طبيعة خصائصها هي أفعال التفكير من شك وتخيل وإحساس ...وهي مايشكل الهوية الشخصية للكائن البشري، بل إنها صفته الأكثر يقينية، والأكثر صمودا أمام أقوى عوامل الشك
موقف جون لوك:نقد التصور الجوهراني الماهوي: ليست الهوية الشخصية سوى ذلك الوعي أو المعرفة المصاحبة لإحساساتنا
يرى "جون لوك" أن مايجعل الشخص " هو نفسه" عبر أمكنة وأزمنة مختلفة، هو ذلك الوعي أو المعرفة التي تصاحب مختلف أفعاله وحالاته الشعورية من شم وتذوق وسمع وإحساس وإرادة، تضاف إليها الذاكرة التي تربط الخبرات الشعورية الماضية بالخبرة الحالية، مما يعطي لهذا الوعي استمرارية في الزمان
"إذن فلوك" و "ديكارت" مجمعان بأن الشخص هو ذلك الكائن الذي يحس ويتذكر و -يضيف التجريبي لوك- يشم ويتذوق!
ولكنهما يختلفان فيما يخص وجود جوهر قائم بذاته يسند هذا الوعي وهذه الاستمرارية التي يستشعرها الفرد؛، والواقع أن " الجوهر المفكر" -من وجهة نظر المحاكمة الحسية- كينونة ميتافيزيقية لايسع لوك قبولها انسجاما مع نزعته التجريبية التي لاتقر لشيء بصفة الواقعية والحقيقة مالم يكن إحساسا أو مستنبطا من إحساس،
وباختصار فالهوية الشخصية تكمن في فعل الوعي، وعندما يتعلق الأمربالماضي يصبح الوعي ذاكرة بكل بساطة، وكل هذا لكي يتجنب لوك القول بوجود جوهر مفكر، أي أن الهوية لاتقوم في أي جوهر مادي كان أو عقلي، ولاتستمر إلا مادام هذا الوعي مستمرا
موقف دافيد هيوم: النقد الجذري للتصور الديكارتي الماهوي
دافيد هيوم فيلسوف تجريبي، لايعترف بغير الانطباعات الحسية مصدرا أولا للأفكار، وعليه فلكي تكون فكرة ما واقعية، فلابد لها أن تشتق من انطباع حسي ما، والحال أن فكرة "الأنا" أو "الشخص" ليست انطباعا حسيا مفردا، بل هي ماتنسب إليه مختلف الانطباعات. وإذا ما وجد انطباع حسي مولد لفكرة "الأنا" فلابد أن يتصف هذا الانطباع بنفس صفات الأنا وهي الثبات والاستمرارية طيلة حياتنا، والحال أنه لاوجود لانطباع مستمر وثابت: إن الألم واللذة، الفرح والحزن، الأهواء والاحساسات...، حالات شعورية تتعاقب ولاتوجد أبدا متزامنة أومجتمعة. وعليه ففكرة الأنا لايمكن ان تتولد عن هذه الانطباعات ولاعن أي إنطباع آخر، ومن ثم فلا وجود لمثل هذه الفكرة واقعيا، ومن باب أولى ينبغي الامتناع عن أي حديث عن الهوية الشخصية كجوهر قائم بذاته.
ب- الذاكرة والهوية الشخصية
بغض النظر عما إذا كانت الهوية جوهرا قائما بذاته أو تعاقبا لحالات شعورية متباينة، فإن الهوية ليست كيانا ميتافيزيقيا مكتمل التكوين منذ البدأ، إنها سيرورة سيكلوجية تجد سندها المادي في الذاكرة، وعملية تطورية تنشأ تدريجيا بفضل تفاعل الفرد مع الغير
سبق لــ ابن سينا أن لاحظ، في هذا الإطار، بأن فعل التذكر هو الذي يمنح الفرد شعورا بهويته وأناه وبثباتها.ويتجلى هذا واضحا في شعور الفرد داخلياً وعبر حياته باستمرار وحدة شخصيته وهويتها وثباتها ضمن الظروف المتعددة التي تمر بها، كما يظهر بوضوح في وحدة الخبرة التي يمر بها في الحاضر واستمرار اتصالها مع الخبرة الماضية التي كان يمر بها.
إذا كانت الذاكرة هي مايعطي لشعور الشخص بأناه وبهويته مادتهما الخام، فإن امتداد هذه الهوية في الزمان، كما يلاحظ جون لوك، مرهون باتساع أو تقلص مدى الذكريات التي يستطيع الفكر أن يطالها الآن: وبعبارة أخرى إنني الآن هو نفسه الذي كان ماضيا وصاحب هذا الفعل الماضي هو نفس الشخص الذي يستحضره الآن في ذاكرته.
لهذا السبب، وعندما يتساءل برغسون عن ماهية الوعي المصاحب لجميع عمليات تفكيرنا، يجيب ببساطة: إن الوعي ذاكرة، يوجد بوجودها ويتلف بتلفها
ومن الجدير بالذكر أن الوعي بالذات على هذا النحو الأرقى ليس مقدرة غريزية او إشراقا فجائيا، بل هو مسلسل تدريجي بطيء يمر أولا عبر إدراك وحدة الجسم الذي ينفصل به الكائن عما عداه وعبر العلاقة مع الغير.
II-الشخص بوصفه قيمة
استشكالات أولية:
مالذي يؤسس البعد القيمي-الأخلاقي للشخص؟ وهل يمكن فلسفيا تبرير الاحترام والكرامة الواجبة بشكل مطلق للشخص البشري ؟ وما علاقة ذلك بمسؤوليته والتزامه كذات عاقلة وحرة تنسب إليها مسؤولية افعالها ؟
يستفاد من المحورين السابقين أن الفرد وبشكل مجرد سابق على كل تعيين - أي وقبل أن يتحدد بطول قامته أو لون عينيه او مزاجه أو ثروته- هو ذات مفكرة، عاقلة، واعية قوامها الأنا الذي يمثل جوهرها البسيط الثابت ، وذلك بغض النظر عن الاختلاف القائم بين الفلاسفة حول طبيعة هذا الأنا وعلاقته بالجسد والانطباعات الحسية والذاكرة...
ولكن مافائدة هذا التجريد النظري على المستوى العملي؟ هل يمكن أن نرتب عليه نتائج أخلاقية ملموسة؟
موقف كانط:العقل أساس قيمة الشخص وكرامته
انطلاقا من هذا التجريد، ذهب كانط بأن الإنسان هو أكثر من مجرد معطى طبيعي، إنه ذات لعقل عملي أخلاقي يستمد منه كرامة أي قيمة داخلية مطلقة تتجاوز كل تقويم أو سعر.إن قدرته كذات أخلاقية على أن يشرع لنفسه مبادئ يلتزم بها بمحض إرادته، هي ما يعطيه الحق في إلزام الآخرين باحترامه أي التصرف وفق هذه المبادئ. ومادام هذا العقل الأخلاقي ومقتضياته كونيا، فإن الأنسانية جمعاء تجثم بداخل كل فرد مما يستوجب احترامه ومعاملته كغاية لاكوسيلة والنظر إليه كما لو كان عينة تختزل الإنسانية جمعاء. وهذا الاحترام الواجب له من طرف الغير لاينفصل عن ذلك الاحترام الذي يجب للإنسان تجاه نفسه،إذ لا ينبغي له أن يتخلى عن كرامته، وهو ما يعني أن يحافظ على الوعي بالخاصية السامية لتكوينه الأخلاقي الذي يدخل ضمن مفهوم الفضيلة، .
لقد كتب كانط هذه الأفكار في "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" في القرن الثامن عشر .وصحيح أن القرن العشرين قد شهد تحسنا كبيرا للشرط البشري مقارنة مع قرن الأنوار: إلغاء الرق، التخفيف من الميز ضد النساء...، بيد أنه عرف أيضا أهوال حربين عالميتين جسدتا واقعيا فكرة الدمار الشامل، إنضافت إليهما حروب محلية شهدت أبشع أنواع التطهير العرقي ومعسكرات الاعتقال... مما جعل التأمل الفلسفي، في القرن العشرين يعاود مجددا طرح السؤال حول حرمة الكائن البشري وسلامته الجسدية وبالخصوص حقه في عدم التعرض للأذى، "
موقف طوم ريغان:قيمة الشخص نابعة من كونه كائنا حيا حاسا
تنتمي فلسفة طوم ريغان إلى التقليد الكانطي، لكن في حين يؤسس كانط القيمة المطلقة التي نعزوها إلى الكائنات البشرية على خاصية العقل، وبالضبط العقل الأخلاقي العملي، التي تتمتع بها هذه الكائنات،بما يجعل منها ذواتا أخلاقية، فإن طوم ريغان يعتبر هذا التأسيس غير كاف، وحجته في ذلك أننا ملزمون باحترام القيمة المطلقة لكائنات بشرية غير عاقلة مثل الأطفال وكذا الذين يعانون من عاهات عقلية جسيمة
وعليه فإن الخاصية الحاسمة والمشتركة بين الكائنات البشرية ليست هي العقل، بل كونهم كائنات حاسة واعية أي كائنات حية تستشعر حياتها، بما لديها من معتقدات وتوقعات ورغبات ومشاعر مندمجة ضمن وحدة سيكلوجية مستمرة في الماضي عبر التذكر ومنفتحة على المستقبل من خلال الرغبة والتوقع...، مما يجعل حياتها واقعة يعنيها أمرها، بمعنى ان مايحدث لها، من مسرة تنشدها أو تعاسة تتجنبها، يعنيها بالدرجة الأولى بغض النظر عما إذا كان يعني شخصا آخر أم لا "
ويمضي توم ريغان بهذا المبدأ إلى مداه الأقصى فبخلص إلى أن جميع المخلوقات التي يمكنها أن تكون «قابلة للحياة»، أي مواضيع لوجود يمكن أن يتحول للأفضل أو للأسوأ بالنسبة إليها، تمتلك قيمة أصلية في ذاتها وتستحق أن تحترم مصالحها في عيش حياة أفضل..
إذا كان تصور طوم ريغان يتجاوز بعض مفارقات التصور الكانطي، فإنه يثير مفارقات لاتقل عنها إحراجا لأن معيار "الذات الحية التي تستشعر حياتها" يلزمنا بإضفاء قيمة أصيلة مطلقة ليس فقط على الكائنات البشرية، بل وحتى الحيوانات ووبالخصوص الثدييات التي سنصبح مطالبين بمعاملتها كغاية لا كمجرد وسيلة!
III-الشخص بين الضرورة والحتمية
استشكالات أولية:
يبدو أن مدار الحديث عن مفهوم الشخص - كذات عاقلة وحرة تنسب إليها مسؤولية افعالها - ينحصر في قضيتين: الكرامة والمسؤولية. يشير المفهوم الأول إلى مايحق للمرء النمتع به بوصفه شخصا، بينما يشير المفهوم الثاني إلى ماهو ملزم او ملتزم به أو مطالب به بوصفه شخصا أيضا.
بحثنا المفهوم الأول في المحور السابق. إذا اقتصرنا الآن على المفهوم الثاني، فمن اليسير أن نتصور بأن المسؤولية لاتنفصل عن صفة أخرى وهي الحرية التي يطالب بها الفرد كجزء من كرامته، وهذه المرة أيضا، بوصفه شخصا.
لن نتوقف عند الحريات السياسية لأن المانع دونها جلي واضح، وهو النظام السياسي ومختلف أشكال التضييق والقمع التي يمارسها على حرية الأفراد في التجمع والتعبير، سيقتصر بحثنا فقط على الحرية التي يحاسب الشخص بموجبها أخلاقيا من قبل الغير أو من قبل ضميره الشخصي (تأنيب الضمير) ؛أو تلك الحرية التي تترتب عنها المسؤولية المدنية أو الجنائية والتي بموجبها يحاسب المرء قانونيا أمام العدالة، ذلك أن القاضي ملزم بإثبات خلو الفعل من الإكراه كشرط لإثبات المسؤولية أي توفر عنصر الحرية والاختيار، وبناءا عليه يعرض المتهم نفسه للعقوبات المقررة
هل هذه الحرية المفترضة موهومة، لأن الشخص يرزح تحت وطأة مجموعة من الإكراهات والإشراطات التي لايطالها وعيه أحيانا، أم أن الشخص البشري ليس موضوعا ولاتجوز في حقه مقولات العلم وعلى رأسها الحتمية؟
موقف العلوم الإنسانية: تتمثل الضرورة في خضوع الشخص لحتميات تتجاوز وعيه وتلغي حريته
في المحورين السابقين تمت مقاربة مفهوم الشخص من زاوية الوعي وبشكل مجرد من كل تعيين، بيد أن الكائن الشري بنية سيكوفيزيولوجية وكائن سوسيوثقافي، فلا يسعه الإنفلات من قوانين الفيزيولوجيا والمحددات النفسية والإكراهات السوسيوثقافية.
إن تجاهل هذه الشروط هي مايجعل كل إنسان يعتقد أنه السيد في مملكة نفسه، وأنه من اختار بمحض إرادته بعض ملامح شخصيته،
هناك مذاهب فلسفية كثيرة قامت على فكرة الحتمية الكونية الشاملة فلم تر في الشعور بالحرية سوى وهم ناتج عن جهل بسلسلة العلل والأسباب، وكما يقول اسبينوزا، فإنا الناس يعوون حقا رغباتهم لكنهم يجهلون العلل الخفية التي تدفعهم إلى الرغبة في هذا الموضوع او ذاك. وبيدو أن العلوم الإنسانية المعاصرة تقدم دلائل إضافية داعمة للتصور الحتمي السبينوزي،: فالتحليل النفسي مثلا يرى البناء النفسي للشخصية كنتيجة حتمية لخبرات مرحلة الطفولة، كما أن الكثير من الأنشطة الإنسانية تحركها دوافع الهو اللاشعورية ذات الطبيعة الجنسية أو العدوانية. هذا الهو الذي قال عنه "نيتشه": وراء أفكارك وشعورك يختفي سيد مجهول يريك السبيل، إسمه الهو. في جسمك يسكن، بل هو جسمك، وصوابه أصوب من صواب حكمتك"، بل إن بول هودار يذهب إلى حد القول بأن: " كلام الإنسان كلام مهموس له به من طرف الهو، الذي يعبر عن نفسه في الإنسان عندما يحاول الإنسان أن يعبر عن ذاته !!"
أما بالنسبة لعلماء الإجتماع والأنثربولوجيا، فإن طبقات مهمة في الشخصية لاتعدو أن تكون سوى انعكاس للشخصية الأساسية للمجتمع أو الشخصية الوظيفية لجماعة الإنتماء، بحيث يمكن القول مع دوركايم أنه كلما تكلم الفرد أو حكم ، فالمجتمع هو الذي يتكلم أو يحكم من خلاله. وإذا كانت التنشئة الإجتماعية تزود الفرد بعناصر من ثقافة المجتمع، فأن هذه الثقافة بدورها حسب التحليل الماركسي ليست سوى انعكاس للبنية التحتية المستقلة عن وعي الذوات: لأن الوجود المادي هو الذي يحدد الوعي لاالعكس.
حاصل الكلام هو اختفاء الإنسان أو موته كما أعلنت البنيوية، لأن البنيات النفسية الإجتماعية اللغوية... هي التي تفعل وليس الذات أو الفرد. هل يمكن بعد كل هذا الحديث عن الإنسان كما نتحدث عن ذات أي عن كائن قادر على القيام بعمل إرادي؟ هل للسؤال "من أنا " بعد من قيمة؟ !!
موقف سارتر ومونييه:إن كون الكائن البشري شخصا هو بالضبط مايسمح له بأن يبارح مملكة الضرورة؟
رغم كل ماذكر فإن الإنسان لازال يقنع نفسه بأن له شيئا يفعله، شيئا يبقى عليه أن يفعله. إن النظر إلى الشخص باعتباره ذاتا ووعيا يمكننا من القول بأن وعي الإنسان بالحتميات الشارطة يمثل خطوة أولى على طريق التحرر من تأثيرها وإشراطها المطلق، بلقد اشتقت الوجودية مقولة " أسبقية الوجود على الماهية " من خاصية الوعي،، لأن الإنسان ليس وجودا في ذاته كالأشياء، بل وجودا لذاته: يوجد ويعي وجوده، مما يجعل وجوده تركيبة لانهائية من الإختيارات والإمكانيات؛ وعلى عكس الطاولة أو الشبل اللذان يتحدد نمط وجودهما بشكل خطي انطلاقا من ماهيتهما القبلية، فإن الإنسان مفتقر إلى مثل هذه الماهية التي قد تسمح بتعريفه أو الحديث عن شخصيته على نحو قبلي مسبق. صحيح أن الفرد يحيا على الدوام لا في المطلق، بل في وضعية محددة اجتماعيا وتاريخيا، لكن ردود أفعاله واختياراته لاتحددها هذه الشروط الموضوعية وحدها، بل وأيضا المعنى الذاتي الذي يفهم بموجبه هذه الشروط والأوضاع مما يفسح مجالا واسعا للحرية وانفتاح الممكنات. من هنا نفهم تصريح سارتر بأن الإنسان مشروع في سماء الممكنات، محكوم عليه بأن يكون حرا، وبان الإنسان ليس شيئا آخر غير مايصنع بتفسه.
ونستطيع استثمار أطروحة سارتر التي أتينا على ذكرها للقول بأن الإنسان ليس آلة إلكترونية، حتى لو أضفنا لها صفات الذكاء والصنع المتقن كما يقول إيمانويل مونييه الذي يرفض كل اختزال للشخص إلى شيء أو موضوع لأن البشر ليسوا صنفا من أشجار متحركة أو جنسا من حيوانات ذكية بمعنى أن كل المعرفة الوضعية التي راكمتهاالعلوم الإنسانية لا يمكنها أن تستنفذ حقيقة الشخص الذي يظل أكثر من مجرد شخصية أي أكثر من مجرد نظام سيكوفيزيولولجي وسوسيوثقافي
نلاحظ أن وجودية سارتر وشخصانية مونييه يتقاطعان في رفض الخطاطة التبسيطية التي تجعل الشخص والظاهرة الإنسانية عموما ظاهرة خاضعة على غرار الظواهر الطبيعية لمقولات العلم الموضوعي وعلى رأسها الحتمية، إن الإنسان بالنسبة لفلاسفة الحرية تجربة ذاتية منغرسة في العالم لاتتوقف عن إبداع نفسها ولكن تقول العلوم الإنسانية: إنه لايبدع ولايعبر إلا عن مجمل الشروط التي يتلقى!
خلاصة عامة للدرس:
إذا كان لابد من خلاصة تجمع أطراف موضوع متشعب كموضوع "الشخص"، فسنقول بأن الشخص، تلك الوحدة الصورية، ذلك الكائن المفكر العاقل والواعي...إلخ ينطوي في المستوى المحسوس على شخصية هي حصيلة تفاعل بين عوامل باطنية وأخرى متعلقة بالمحيط الخارجي، إنها ذلك الشكل الخاص من التنظيم الذي تخضع له البنيات الجسمية، النفسية والإجتماعية. صحيح أن هذا التنظيم يخضع لعوامل ومحددات موضوعية كثيرة، لكن ذلك لايلغي دور الشخص في بناء شخصيته. وإذا ما بدا موضوع الشخص إشكاليا متعدد الأبعاد، فماذلك إلا لأن دراسة الشخص ليست إلا إسما آخر لدراسة الإنسان بكل تعقده وغموضه.
---------------------------------------------------
إن مفهوم الغير عادة ما يستعمل للإشارة إلى ذلك الآخر من الناس المتميز عن الأنا (فردية كانت أو جماعية). وتتأسس أسباب الشعور بالتمايز على عوامل مختلفة (العرق، الثقافة، السن، الجنس، التراتبيات الاجتماعية، ...الخ)، ويمكن أن ينجم عن ذلك إما علاقات إيجابية (مثل الصداقة، التسامح، التعاون، ...الخ). ويمكن، على العكس، أن تتولد بين الأنا والغير علاقات سلبية (مثل الإقصاء، العنصرية، العنف، ...الخ). إن مثل هذه التقابلات هي التي تدفع التفكير الفلسفي أن يهتم بمفهوم الغير محاولا أن يحدد مدى تأثير أحدهما في الآخر وطبيعة كل منهما بالنظر إلى الطرف الثاني. والجدير بالذكر، أن التفكير الفلسفي عادة ما يثير هذه الإشكالية، إما في إطار علاقة السلب أو المماثلة. ويمكن تحديد السلب باعتباره مفهوما يستعمل كمرادف للتميز، وأما المماثلة فتشير على العكس إلى التطابق بين الأنا والغير. كما يعتقد المفكرون أن بروز إشكالية الغير يرتبط بالفلسفة الحديثة: فهناك من يربط تلك النشأة بهيغل وذلك في إطار ما يعرف اصطلاحا ب"جدلية السيد والعبد" (أنظر اللاحق)، وهناك من يربطها بديكارت خصوصا لما رفض الفيلسوف الاستعانة بالإرث المعرفي مما قد يؤل فلسفيا باعتباره إقصاء للغير خاصة وأن الأنا تستطيع - في اعتقاد ديكارت - أن تبني المعرفة دونما حاجة إلى الغير. إن أشباه هذه التمثلات هي التي تدفع طرح التساؤلات التالية : ما هو الغير؟ وكيف يمكن أن يؤثر وجوده في الأنا؟ هل نستطيع أن نتمثل الغير كما هو بالنظر إلى ذاته؟ ما نوعية العلاقة القيمية التي يمكن أن تتأسس بين الأنا والغير؟
1. وجود الغير
إن إشكالية وجود الغير، من القضايا التي ركزت عليها الفلسفة الوجودية، ويعتبر هيدغر Heidegger ممن عالجوها من خلال طبيعة علاقة التفاعل التي يمكن أن تجمع الأنا بالغير. حيث يعتقد الفيلسوف أن الأنا لا تستطيع المحافظة على فردانيتها عندما تكون مع الغير، لأن الوجود-مع-الغير يقضي على كل خصوصية وتميز، ومن ثم تذوب الأنا في ذلك الوجود وترفع، بذلك، من سلطة الغير. هكذا يصبح التماثل في أنماط السلوك هو المهيمن، بحيث تصبح الذات مفتقدة داخل الوجود المشترك. وعلى هذا الأساس، يرى هيدغر أن الأنا تسمح للضمير اللامعين On من بسط هيمنته.هكذا يمكن أن نتحدث بهذه الصيغة فنقول مثلا " هناك من أراد ذلك، كما يمكن القول "لا أحد" أراد ذلك". إن هذا الضمير يستمد سلطته من تأثير وجود الغير بحيث لم يعد وجود الإنسان يتحدد في وجوده الفردي ومن ثم "أصبح الإنسان لا أحد".
إذا كان تصور هيدغر يتأسس على المماثلة، على الأقل على مستوى الشعور، والسلوكات، والمواقف، التي تقود إلى نمطية في العلاقة بالغير تفرغ الأنا من كل ذاتية متفردة ؛ فإن سارتر، على العكس، يعتقد أن العلاقة الأولية بين الأنا والغير هي علاقة سلب، وبالتالي انعدام العلاقة. ومن ثم يصبح القول "أنا لست فلانا" شبيها بالحكم الأنطولوجي "الطاولة ليست كرسيا". هكذا يتبن أن العلاقة، بين الأنا والغير، هي علاقة موضوع بموضوع. إن ذلك لا يعني أن محاولة الانفتاح عن الغير قد تؤدي إلى انكشاف ذاتيته، لأن كل محاولة لمعرفة الغير تحوله إلى موضوع، والعكس صحيح. وقد حاول سارتر، من خلال مثال الخجل، أن يرمز إلى هذه العلاقة حينما بين أن الأنا بالنظر إلى ذاتها كينونة يفترض أن تمارس ذاتيتها وتحيى كينونتها، لكن بمجرد أن ترفع بصرها فتكتشف آخر ينظر إليها حتى تتوقف تلقائيتها، وتقضي على حريتها فتحس بالخجل. لأن الأنا أصبحت تنظر إلى نفسها بنظرة الأخر إليها، وذلك ما يفيد أن الغير يتثمل الأنا كمعطى خارجي يكونه ضمن تجربته الخاصة (تماما كما تفعل الأنا بالغير).
إن موقف سارتر يجعلنا ندرك أن هذا الفيلسوف يؤكد ضمنيا استحالة معرفة الغير كما هو بالنظر إلى ذاته، وذلك ما يدفع إلى طرح السؤال التالي : هل معرفة الغير ممكنة ؟
2. معرفة الغير
إذا كان سارتر يميل إلى التأكيد على استحالة معرفة الغير، لأن الأنا تتمثله بوصفه موضوعا، فإن غاستون بيرجي G. Berger يرى أن استحالة معرفة الغير ترجع إلى طبيعة الذات البشرية : فبقدر ما تنتشي الذات بعزلتها وانغلاقها على نفسها، بقدر ما يشكل ذلك عائقا يحول دون القدرة على اقتحام بواطنها. إن ذلك لا يعني أننا لا نستطيع مشاركة الآخرين إحساساتهم، وأن نحاول إبراز بوادر المودة والعطف نحوهم، وإنما المقصود أننا لا يمكن أن نحس بالأمور كما يحسون بها، ومن ثم يصعب الحديث عن مماثلة تامة بين شعور الأنا وشعور الغير. هكذا، تظل كل ذات سجينة نفسها على المستوى الوجودي. إن ذلك ما يجعل الفيلسوف يعتقد أن قدر الإنسان يتحدد في عدم القدرة على تحقيق رغبته في التواصل.
وفي نفس التوجه، يبين نيكولا مالبرانش N. Malebranche أن كل فرد متأكد أنه يشاطر الناس مجموعة من المعارف والحقائق. بل إن الفرد قد يكون متيقنا بأن هناك مطابقة تامة بين معارفه ومعارف الغير، إلا أن ذلك لا يسري على معرفة خصوصيات الذات، لأننا لا نعرف المميزات العقلية والنفسية للآخرين بشكل دقيق. كما لا نستطيع الجزم على أن انفعالات الآخرين وميولاتهم تماثل ميولاتنا تماثلا تاما. ومن ثم، فإن الأحكام التي تصدرها الأنا عن الغير كثيرا ما تتسم بالخطأ، بل إن الفيلسوف يرى أنه من الخطأ الحكم على الآخرين انطلاقا من ذواتنا.
إذا كانت بعض الواقف الفلسفية تعبر عن استحالة معرفة الغير، فإنه يمكن أن نجد، في المقابل، مقاربات فلسفية تؤكد أن معرفة الغير ممكنة، ذلك ما يمكن أن نلمسه عند إدموند هوسرلE. Husserl . فقد حرص هذا الفيلسوف، على أن يبين أن المماثلة هي أساس معرفة الغير. فالآخرون موضوعات خارجية لكن الأنا لا تتعامل معهم ولا تدركهم بهذه الصورة، وإنما تتعامل معهم انطلاقا من وعيها بنفسها: فإذا كان للأنا شعور بتجربتها المتعالية الخاصة عن العالم، وعن الآخرين، فإن للغير بدوره يملك نفس الوعي بتجربته. هكذا يتبين أن لكل من الأنا والغير تجربة ذاتية، ومن هذا المنطلق تتوحد الأنا بالغير من خلال "عالم بينذاتي"، موجود لدى كل واحد من الناس. وعليه، فإن الأنا تستطيع أن تعرف الغير انطلاقا من مماثلة ذاتها بذاته : بحيث تدرك الأنا الغير من العلاقة البينذاتية أنهما يملكان وعيا متماثلا تجاه العالم ولآخرين. ومن ثم، فإذا لاحظت انفعالا باديا عن الغير، فإنه ذلك يجعلني أستطيع أن أحدد طبيعة انفعاله انطلاقا من وعيي الخاص بذاتي.
أما ماكس شيلر M. Scheler، فإنه يؤكد أن معرفة الغير ممكنة، من خلال مظاهره الفسيولوجية (الخارجية)، حتى لو تعمد إخفاء شعوره أو حاول أن يظهر خلاف ما يبطن. ومعنى ذلك، أن الفيلسوف يرفض تمثل الغير من خلال نظرة ثنائية، تجزئه إلى جانب قابل للإدراك الداخلي و آخر قابل للإدراك الخارجي. فشيلر يؤكد أن الغير كلية (أو وحدة) ينصهر فيها الداخلي بالخارجي، لذا لا يمكن أن نعتبره كأنا غريب عنا.
إذا كانت التصورات الفلسفية السابقة تحاول أن تعالج إشكالية علاقة الأنا بالغير من الناحية المعرفية، فإن ذلك يؤدي إلى طرح التساؤل عن طبيعة العلاقة القيمية التي يمكن أن تكون بين الأنا والغير، هل هي علاقة تقارب ؟ أم علاقة تهميش وإقصاء ؟
1. وجود الغير
إن إشكالية وجود الغير، من القضايا التي ركزت عليها الفلسفة الوجودية، ويعتبر هيدغر Heidegger ممن عالجوها من خلال طبيعة علاقة التفاعل التي يمكن أن تجمع الأنا بالغير. حيث يعتقد الفيلسوف أن الأنا لا تستطيع المحافظة على فردانيتها عندما تكون مع الغير، لأن الوجود-مع-الغير يقضي على كل خصوصية وتميز، ومن ثم تذوب الأنا في ذلك الوجود وترفع، بذلك، من سلطة الغير. هكذا يصبح التماثل في أنماط السلوك هو المهيمن، بحيث تصبح الذات مفتقدة داخل الوجود المشترك. وعلى هذا الأساس، يرى هيدغر أن الأنا تسمح للضمير اللامعين On من بسط هيمنته.هكذا يمكن أن نتحدث بهذه الصيغة فنقول مثلا " هناك من أراد ذلك، كما يمكن القول "لا أحد" أراد ذلك". إن هذا الضمير يستمد سلطته من تأثير وجود الغير بحيث لم يعد وجود الإنسان يتحدد في وجوده الفردي ومن ثم "أصبح الإنسان لا أحد".
إذا كان تصور هيدغر يتأسس على المماثلة، على الأقل على مستوى الشعور، والسلوكات، والمواقف، التي تقود إلى نمطية في العلاقة بالغير تفرغ الأنا من كل ذاتية متفردة ؛ فإن سارتر، على العكس، يعتقد أن العلاقة الأولية بين الأنا والغير هي علاقة سلب، وبالتالي انعدام العلاقة. ومن ثم يصبح القول "أنا لست فلانا" شبيها بالحكم الأنطولوجي "الطاولة ليست كرسيا". هكذا يتبن أن العلاقة، بين الأنا والغير، هي علاقة موضوع بموضوع. إن ذلك لا يعني أن محاولة الانفتاح عن الغير قد تؤدي إلى انكشاف ذاتيته، لأن كل محاولة لمعرفة الغير تحوله إلى موضوع، والعكس صحيح. وقد حاول سارتر، من خلال مثال الخجل، أن يرمز إلى هذه العلاقة حينما بين أن الأنا بالنظر إلى ذاتها كينونة يفترض أن تمارس ذاتيتها وتحيى كينونتها، لكن بمجرد أن ترفع بصرها فتكتشف آخر ينظر إليها حتى تتوقف تلقائيتها، وتقضي على حريتها فتحس بالخجل. لأن الأنا أصبحت تنظر إلى نفسها بنظرة الأخر إليها، وذلك ما يفيد أن الغير يتثمل الأنا كمعطى خارجي يكونه ضمن تجربته الخاصة (تماما كما تفعل الأنا بالغير).
إن موقف سارتر يجعلنا ندرك أن هذا الفيلسوف يؤكد ضمنيا استحالة معرفة الغير كما هو بالنظر إلى ذاته، وذلك ما يدفع إلى طرح السؤال التالي : هل معرفة الغير ممكنة ؟
2. معرفة الغير
إذا كان سارتر يميل إلى التأكيد على استحالة معرفة الغير، لأن الأنا تتمثله بوصفه موضوعا، فإن غاستون بيرجي G. Berger يرى أن استحالة معرفة الغير ترجع إلى طبيعة الذات البشرية : فبقدر ما تنتشي الذات بعزلتها وانغلاقها على نفسها، بقدر ما يشكل ذلك عائقا يحول دون القدرة على اقتحام بواطنها. إن ذلك لا يعني أننا لا نستطيع مشاركة الآخرين إحساساتهم، وأن نحاول إبراز بوادر المودة والعطف نحوهم، وإنما المقصود أننا لا يمكن أن نحس بالأمور كما يحسون بها، ومن ثم يصعب الحديث عن مماثلة تامة بين شعور الأنا وشعور الغير. هكذا، تظل كل ذات سجينة نفسها على المستوى الوجودي. إن ذلك ما يجعل الفيلسوف يعتقد أن قدر الإنسان يتحدد في عدم القدرة على تحقيق رغبته في التواصل.
وفي نفس التوجه، يبين نيكولا مالبرانش N. Malebranche أن كل فرد متأكد أنه يشاطر الناس مجموعة من المعارف والحقائق. بل إن الفرد قد يكون متيقنا بأن هناك مطابقة تامة بين معارفه ومعارف الغير، إلا أن ذلك لا يسري على معرفة خصوصيات الذات، لأننا لا نعرف المميزات العقلية والنفسية للآخرين بشكل دقيق. كما لا نستطيع الجزم على أن انفعالات الآخرين وميولاتهم تماثل ميولاتنا تماثلا تاما. ومن ثم، فإن الأحكام التي تصدرها الأنا عن الغير كثيرا ما تتسم بالخطأ، بل إن الفيلسوف يرى أنه من الخطأ الحكم على الآخرين انطلاقا من ذواتنا.
إذا كانت بعض الواقف الفلسفية تعبر عن استحالة معرفة الغير، فإنه يمكن أن نجد، في المقابل، مقاربات فلسفية تؤكد أن معرفة الغير ممكنة، ذلك ما يمكن أن نلمسه عند إدموند هوسرلE. Husserl . فقد حرص هذا الفيلسوف، على أن يبين أن المماثلة هي أساس معرفة الغير. فالآخرون موضوعات خارجية لكن الأنا لا تتعامل معهم ولا تدركهم بهذه الصورة، وإنما تتعامل معهم انطلاقا من وعيها بنفسها: فإذا كان للأنا شعور بتجربتها المتعالية الخاصة عن العالم، وعن الآخرين، فإن للغير بدوره يملك نفس الوعي بتجربته. هكذا يتبين أن لكل من الأنا والغير تجربة ذاتية، ومن هذا المنطلق تتوحد الأنا بالغير من خلال "عالم بينذاتي"، موجود لدى كل واحد من الناس. وعليه، فإن الأنا تستطيع أن تعرف الغير انطلاقا من مماثلة ذاتها بذاته : بحيث تدرك الأنا الغير من العلاقة البينذاتية أنهما يملكان وعيا متماثلا تجاه العالم ولآخرين. ومن ثم، فإذا لاحظت انفعالا باديا عن الغير، فإنه ذلك يجعلني أستطيع أن أحدد طبيعة انفعاله انطلاقا من وعيي الخاص بذاتي.
أما ماكس شيلر M. Scheler، فإنه يؤكد أن معرفة الغير ممكنة، من خلال مظاهره الفسيولوجية (الخارجية)، حتى لو تعمد إخفاء شعوره أو حاول أن يظهر خلاف ما يبطن. ومعنى ذلك، أن الفيلسوف يرفض تمثل الغير من خلال نظرة ثنائية، تجزئه إلى جانب قابل للإدراك الداخلي و آخر قابل للإدراك الخارجي. فشيلر يؤكد أن الغير كلية (أو وحدة) ينصهر فيها الداخلي بالخارجي، لذا لا يمكن أن نعتبره كأنا غريب عنا.
إذا كانت التصورات الفلسفية السابقة تحاول أن تعالج إشكالية علاقة الأنا بالغير من الناحية المعرفية، فإن ذلك يؤدي إلى طرح التساؤل عن طبيعة العلاقة القيمية التي يمكن أن تكون بين الأنا والغير، هل هي علاقة تقارب ؟ أم علاقة تهميش وإقصاء ؟
3. العلاقة مع الغير
لقد بين ألكسندر كوجيف A. Kojève كيف كان هيغل يحدد العلاقة بين الأنا والغير في إطار "جدلية السيد والعبد". وذلك لما أكد أن الطبيعة البشرية في أصلها تدفع إلى صراع حتى الموت. وبما أن هذا الصراع يهدد الوجود الإنساني لكونه يقود حتما إلى انقراض النوع البشري، ينكشف نوع من الوعي بالذات الذي يقود مبدئيا إلى أن يدرك الإنسان نفسه كموجود لذاته. وذلك ما يحتم على الفرد أن ينتزع اعتراف الآخر. هكذا تدخل كل من الأنا والغير في صراع إلى أن يكون أحد الطرفين منتصرا والآخر منهزما، فيبقي المنتصر على حياة المنهزم لينتزع اعترافه، وذلك بتحويله إلى وسيط بينه وبين الطبيعة، ويفضل المنهزم أن يظل في خدمة المنتصر بدل الموت. فالانتصار، إذن، يحول أحدهما إلى سيد والهزيمة تحول الآخر إلى عبد. ذلك ما يسمح بظهور شكلين من الوعي، أحدهما وعي مستقل والآخر وعي تابع.
إذا كان التصور السابق يتمثل العلاقة بين الأنا والغير على أنها علاقة صراع ؛ فإن الفيلسوف الوضعي أوغست كونت A. Comte يرى، أن على الفرد أن يحس بأنه مدين للإنسانية بكل ما يملك من مواهب، وقدرات مادية ومعنوية. فالإنسان يتشكل وينمو ويتكون في ظل الحماية التي يوفرها له الآخرون كما أن خيرات كثيرة وصلته من أناس لن يتمكن أبدا من التعرف عليهم. إن وصول الإنسان إلى الحالة الوضعية التي تمثل حالة نضج العقل البشري، وبالتالي الحالة التي يتم فيها الاحتكام أساسا إلى العلم، تحتاج إذن إلى نوع جديد من القيم الأخلاقية، قيم قابلة للاختزال في الغيرية وذلك غير متاح إلا بتجاوز الأهواء الشخصية والأنانية. هكذا، يتوجب على كل واحد أن يدرك أن عليه أن يحيى من أجل الغير. فالحياة البشرية لن تستمر إلا أدرك أفراد المجتمع ضرورة مساعدة بعضهم البعض، وأن استمرارهم يتعلق بما يفعل بعضهم لبعض.
وفي العصر الراهن، نجد أفكارا تحاول أن تقف ضد أشكال الإقصاء والتهميش، وذلك ما يمكن أن نلمسه عند جوليا كريسيفا J. Kristeva لما توقفت عند المعنى الحقوقي للغريب، واعتبرته معنى سطحيا. إن هذا المعنى يسلب حق المواطنة وحق الانتماء من الدخيل على المجتمع، ويمكن الجماعة أن تنسب إليه جميع الشرور التي تحدث. إن من شأن هذا المعنى أن يدخل بعض السكينة على الأفراد لكنه لا يفضح بما فيه الكفاية طبيعة الجماعة فيظهرها في صورة مجتمع يعمل على إقصاء الغير ورفض تميزه واختلافه.
وفي مقابل المعنى الحقوقي، ترى كريستيفا أن الغريب يتمثل في تلك القوة الخفية التي تسكننا جميعا والتي تعبر عن التناقضات والاختلافات الداخلية التي غالبا ما يتم السكوت عنها، لأن هذا الغريب يجعل الحديث عن ال"نحن" إشكالية، يصعب معها الحديث عن تماسك الجماعة. وحينما نعترف أن "الغريب يسكننا على نحو غريب" سنكف على نبذه.
كتخريج عام، يتبين أن مفهوم الغير إشكال فلسفي يحمل في ذاته التعبير عن علاقة بين الذات والغير. ويجعل الذات تحاول أن تنكشف لنفسها، ومن خلال ذلك تحديد طبيعة الغير، وبالتالي طبيعة العلاقة التي يمكن أن تربطها بالغير. وما أحوجنا اليوم إلى إعادة النظر في هذا المفهوم، فنحاول تحديده بالنظر إلى الذات الفردية والجماعية، الأمر الذي يحتم (قبل ذلك وبعده) أن نحدد خصوصية الذات وطبيعتها وهويتها، في وقت أصبحت فيه مفاهيم الذات والغير معومة بشكل يجعلها عرضة لكثير من الخطابات هي أقرب إلى السفسطة منها إلى الحكمة والتعقل.
-----------------------------------------------------------------------
التـاريخ
من المؤكد أن كثيرا من الأحداث الراهنة ستصبح مستقبلا وقائع تاريخية. وبما أن التاريخ، يعتبر ذاكرة الشعوب والمجتمعات، نجد الناس يحاولون أن يتركوا بصمات حتى يحفظ التاريخ إنجازاتهم أو أسماءهم. كما نستطيع، في المقابل، أن نجدهم يحاولون طمس الآثار السلبية حتى لا تسجل ضدهم.
ونظرا لأهمية التاريخ، فإنه أصبح موضوعا للتأمل الفلسفي والتفكير الإبيستيمولوجي، خصوصا وأن الملاحظة الموضوعية، تبين أن قراءة الأحداث الراهنة تتسم بكثير من المفارقات، والتباين، فكيف سيكون حال الرجوع إلى الأحداث الماضية. هكذا، أصبح التساؤل حول إمكانية التأكيد على دقة، وعلمية، إعادة بناء الوقائع الماضية أمرا قائما. فما هي إذن طبيعة المعرفة التاريخية ؟ وإلى أي حد نستطيع أو نؤكد أن التاريخ سيرورة متدرجة نحو التقدم ؟ وبالتالي ما دور الإنسان في صناعة التاريخ؟
1. المعرفة التاريخية
يؤكد ريمون أرون R. Aron أن المعرفة التاريخية محاولة لإعادة بناء الحياة الماضية من خلال الاستعانة بمخطوطات ووثائق مختلفة. ومن ثم، تكون المعرفة التاريخية مستقلة عن التجارب التي يعيشها الناس في الحاضر.
إن الحاضر يمثل فضاء عاما يمكن الناس من معرفة تلقائية وشائعة حول سلوكياتهم وأفكارهم. إلا أن الأمر يختلف تماما فيما يخص المعرفة التاريخية، لأنه يصعب أن يتمثل الناس كليا الحياة كما كانت في الماضي. وبتعبير أوضح، ستظل المعرفة التاريخية غير قادرة، على جعل المعاصرين يستشعرون فهم الناس الذين عاشوا في الماضي لحياتهم والطريقة التي كانوا يتمثلون بها سلوكياتهم وأفكارهم.
أما بول ريكور P. Ricœur، فيعتقد أن الواقعة التاريخية تشبه الوقائع العلمية الأخرى باعتبارها نتاجا لمنهج علمي يتسم بالموضوعية، فالمؤرخ يستنطق الأثر التاريخي من خلال مجموعة من التساؤلات والفرضيات، ليتحول الماضي إلى واقع أو حدث.
وفي مقابل ما سبق، يؤكد الإبيستيمولوجي المعاصر جيل غاستون غرانجي G.G. Granger أنه لا يجب الخلط بين التاريخ وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والاقتصاد، لأن التاريخ ليس واحدا من العلوم الإنسانية...
فقد يتأرجح المؤرخ بين هذه العلوم جميعا دون أن يتبنى أحدا منها، مما يجعل من التاريخ تخصصا متميزا. إن التاريخ، لا يهتم ببلورة نماذج خاصة بالظواهر كما تفعل العلوم، لأنه يسعى إلى بناء الوقائع نفسها التي كانت في الماضي... فالتاريخ – في نظر غرانجي – ليس علما، وإنما هو أحد الفنون المتأرجحة بين الرواية والعلوم الاجتماعية: فمن خلال نزوعه الجمالي يقترب التاريخ من الرواية، ومن خلاله بعده الصوري يقترب من العلوم الاجتماعية. كما يمكن القول بأن التاريخ ليس علما، لأنه ليس معرفة تقنية، أو لأنه تقنية تسعى إلى إعادة بناء الماضي، وذلك ما يحوله إلى أيديولوجيا رغم بعض المساعي التي تحاول أن تنزع به نحو الموضوعية.
2. التاريخ وفكرة التقدم
إذا كان الماضي يتكون من مجموعة من الأحداث المتعاقبة كرونولوجيا، فهل نستطيع أن نستطيع أن نؤكد بأن الوقائع التاريخية تعرف سيرورة تراكمية؟
تعتقد الماركسية أن الناس يدخلون في علاقات إنتاج، وبالتالي شروط موضوعية، مستقلة عن إرادتهم.. وفي حالة ما إذا كانت وسائل الإنتاج ملكية خاصة، فإن ذلك حتما يقود إلى الطبقية وبالتالي إلى استغلال الإنسان للإنسان. هكذا عرف التاريخ أنماطا متعاقبة للإنتاج سادت فيها الطبقية ويتمثل آخرها في نمط الإنتاج الرأسمالي. ويمكن تفسير التحولات التي عرفتها المجتمعات من خلال القوانين الدياليكتيكية التي تقنن صيرورة الوجود الاجتماعي. ومن ثم، يمكن تفسير جميع أشكال التحولات التاريخية للمجتمعات من خلال صراع المتناقضات. لهذا ترى الماركسية أن محرك التاريخ هو الصراع الطبقي.
إذا كانت الماركسية تحدد دينامكية التاريخ في القوانين الجدلية، فإن ميرلوبونتي Merleau-Ponty يؤكد أن للتاريخ منطقه الخاص: فهو من جهة عبارة عن تراجيديا واحدة تتأطر داخلها جميع الأحداث ؛ ومن جهة أخرى يلاحظ أن مكونات تلك التراجيديا تتنامى بشكل متسلسل وتعاقبي نحو نهاية معينة. وبما أن التاريخ يعتبر نسقا منفتحا، فإن ذلك ما يسمح بوجود فجوات تؤثر في انتظام سيرورة الوقائع: فقد يحدث أن تختل العلاقة الجدلية بين الشروط الاقتصادية والشروط الأيديولوجية، بحيث يسبق النضج الأيديولوجي النضج الاقتصادي. كما يمكن أن تزيغ دينامية التاريخ عن الأهداف المرسومة والغايات المتوقعة. لكن ذلك، لا يبيح التخلي عن الاعتقاد بوجود "منطق للتاريخ"، لأن هذا سيفسح المجال لاعتبار التاريخ مجرد احتمالات ضمن سلسلة من الممكنات.
ولعل ذلك ما يتجه إليه تمثل ليفي ستروس Lévi-Strauss، لأن هذا العالم الأنتروبولوجي يعتقد أن تكريس فكرة التقدم فيه كثير من المجازفة. فالتاريخ لا يدل ضرورة على وجود حركية تتجه نحو التقدم. وفكرة التقدم قد تشير فقط إلى وقائع متزامنة مرتبطة بأمكنة مختلفة، وليس بالضرورة إلى وقائع متدرجة عبر الزمان. فقد ذهب الناس، مثلا، إلى الاعتقاد بوجود "عصر حجري" قبل "العصر البرونزي"، وذلك أمر لم يحدث بالضرورة. والحقيقة، أنه نظرا لتطور تقنية صناعة الأدوات والمعدات من البرونز والنحاس قياسا بصناعتها من الحجارة فرض تفوق التقنية الأولى عن الثانية. ذلك ما جعلنا نعتقد أن الأمر يتعلق بتقدم حدث عبر الزمان.. بل إن ليفي ستروس ذهب إلى التأكيد أن تحول الوقائع عبر التاريخ يحدث وفق ما يسمى عند البيولوجيين بالطفرت. هكذا يكون التراكم التاريخي مجرد عملية حسابية تستجمع كل الوقائع التي مرت، وذلك لا يؤكد حتما وجود تسلسل منطقي.
3. دور الإنسان في التاريخ
يعتقد هيغل أن التاريخ يعرف صيرورة تعبر فيها الفكرة المطلقة عن ذاتها. كما أن العظماء من الناس يدركون أن وجودهم لا يتحدد في تحقيق غايات خاصة بهم. فالتاريخ ليس تحقيقا لما ينجزه الناس من أفعال راهنية، وإنما التاريخ بناء متجدر في طبيعة الإنسان يتجه نحو تحقيق ما هو كوني. وإذا انتهى الأبطال والعظماء إلى الموت، الذي هو مصيرهم، فلا تبقى سوى الغايات التي من أجلها كرسوا أنفسهم.
إن التصور الهيغلي لدور الإنسان في بناء التاريخ هو تصور جبري، لأن هيغل يعتقد أن الكون هو استلاب للفكرة المطلقة، ومن ثم تكون جميع أفعال الإنسان تعبير عن تلك الروح الموضوعية (التي يجب أن تعود إلى أصلها) التي تعبر عن نفسها في جميع منجزات الإنسان.
وعلى عكس ذلك حاول سارتر أن يؤكد أن الإنسان هو الذي يصنع تاريخه. وبهذه الكيفية، يعيد الفيلسوف النظر في المفهوم الماركسي للتطور. لأن سارتر يرفض أن تتحكم الشروط الموضوعية في الناس وإلا أصبحوا مجرد آلات، وينطلق من أن الإنسان يتميز بقدرته على تجاوز الأوضاع القائمة، ويغير من تأثير الشروط المادية باعتباره مشروعا. فالمشروع يمثل قدرة الإنسان على الخلق ولإبداع ضمن حقل الممكنات التي تنفتح أمام الذات، هكذا يكون الإنسان هو صانع تاريخه من خلال قدرته على تجاوز وضعه الراهن، وممارسة مشروعه من خلال التعبير عن حريته في اختيار إحدى الممكنات وتحقيقها.
كتخريج عام، يتبين أن مفهوم التاريخ، يطرح إشكاليات متعددة أبرزها يتعلق بإشكالية تحديد علمية هذا النوع من التخصص... وسواء أكدنا علمية التاريخ أم لا، فإنه يظل دراسة مهمة قادرة على المساعدة على تحديد الهوية والبحث عن الذات وإدراك الخصوصيات التي تميز أنواع الحضارات ومدى استفادة بعضها من بعض. وفي كل الأحوال فإن الرجوع إلى التاريخ يجب أن يكون للمعرفة والعبرة ولا يجب أن يكون بأي حال من الأحوال سجنا تنغلق فيه الذات للتباكي على الأمجاد البائدة بدلا من العمل على اقتحام الحاضر واستشراف المستقبل.
----------------------------------------------
النظرية والتجربة
لقد حاولت العلوم الطبيعية منذ نشأتها أن تؤسس نظريات تبتعد عن التأمل الفلسفي من خلال الاستناد إلى معطيات مادية ووقائع تجريبية. لكن، تاريخ هذه العلوم سيعرف مع ظهور الفيزياء المعاصرة، تحولات جديدة، وبالتالي إعادة النظر في المفاهيم السائدة إلى حدود القرن التاسع عشر. وذلك ما ساهم في بزوغ نوع جديد من التفكير الفلسفي يعرف بالإبستيمولوجيا، والذي يمكن تحديد أبعاده الوظيفية في نقد العلم من خلال مبادئه، ومناهجه، ومحاولة استباق نتائجه... وذلك ما بين أن النظريات العلمية لا تتصف بالثبات لأنها أصبحت تجسد نوعا من التنوع والنسبية، الأمر الذي يقود إلى طرح التساؤلات التالية: إلى أي حد يمكن اعتبار النظرية العلمية بناء تجريبيا ؟ بماذا يتميز حضور العقل داخل النظريات العلمية ؟ ما هي المعايير التي يمكن اعتمادها للإقرار بعلمية النظريات العلمية؟
1. التجربة والتجريب
إذا انطلقنا من تعريف إجرائي يعتبر النظرية العلمية بناء/نسقا فكريا يتدرج من مقدمات وصولا إلى نتائج ؛ فإن ذلك ما يدفع إلى التساؤل التالي : هل النظرية العلمية بناء نسقي تجريبي أم بناء فرضي استنباطي ؟ إن مثل هذا التساؤل يستمد مشروعيته من المقارنة بين ما كانت عليه الفيزياء التقليدية وما أضحت عليه الفيزياء المعاصرة.
يمكن أن نتمثل علاقة النظرية العلمية في شكلها التقليدي بالتجربة والتجريب بواسطة التحليل الميتودولوجي لكلود بيرنار C. Bernard لما بين أن خطوات المنهاج التجريبي قابلة للاختزال في الخطوات التالية :
ملاحظة الظاهرة أثناء حدوثها في الطبيعة
ميلاد فرضية (تساؤل) تتأسس على مبدإ السببية نتيجة للمعاينة السابقة.
اللجوء إلى التجربة لاختبار مصداقية الفرضية، بحيث تترجم التجربة مرحلة عزل الظاهرة وإعادة بنائها داخل المختبر.
معاينة النتائج المباشرة، ومن ثم تعميم النتائج على الظواهر المتماثلة في الطبيعة وبالتالي صياغة القوانين.
إن هذه الخطوات تظهر العالم في صورة المجرب والملاحظ: فالتجريب يمكن العالم من تحري الدقة والموضوعية، معتمدا على ملاحظة مضبوطة ترتكز على الأدوات والأجهزة. لذا بين كلود بيرنار أن الملاحظة أشبه ما تكون بالتصوير الفوتوغرافي الذي ينقل الوقائع بأمانة، أما التجربة فإنها تشكل الأساس الذي يمكن من التحقق من صدق الفرضيات.
من هذا المنطلق، يتدخل روني توم R. Thom ليتساءل إذا كان التصور التقليدي يتصور أن التجريب هو محاولة للتيقن من صدق فرضية ما، فما هو مصدر الفرضية ؟ ليبين أنه لا يمكن أن توجد فرضية دون تفكير نظري قبلي، لأن الفرضية لا تمثل فقط مجرد أولية فكرية خرجت من العقل، وإنما تجسد أيضا تعبيرا عن علاقة سببية تربط الأسباب بالنتائج. ومن ثم كان فرانسيس بيكون (في اعتقاد روني توم) متوهما لما أكد أن التجريب وحده هو الذي يمنح القدرة على التحليل السببي للظواهر. إن التجريب عاجز بمفرده عن الوصول إلى أسباب الظاهرة، ولا يمكنه أن يحمل في ذاته أي دلالة علمية دون التفكير... ليؤكد روني توم أن التفكير يظل عملية معقدة غير قابلة للضبط والتقنين أو التأطير داخل منهج بعينه.
إن أشباه هذه التمثلات هي التي تقود إلى طرح التساؤل التالي : ما هو دور العقل في بناء النظرية العلمية ؟ وما طبيعة العقلانية العلمية ؟
2. العقلانية العلمية
لقد كان إنشتاين من أهم العلماء والمفكرين الذين حاولوا أن يبرزوا حدود التجربة في النظرية العلمية الفيزيائية، ولا عجب في ذلك إذا كنا نعرف أن نظرية النسبية - عند إنشتاين - كانت وراء ما يعرف إبيستيمولوجيا ب "أزمة التجربة"، على اعتبار أن كثيرا من المفاهيم والتمثلات (مثل نسبية الزمان، نسبية المكان...إلخ) غير قابلة للتحقق التجريبي، لأنها لا تستقيم إلا من خلال التحليل الرياضي. إن ذلك يعتبر من جملة الأسباب التي جعلت إنشتاين يقر أن العقل هو الذي يعطي للنظرية بنيتها وتماسكها، أما التجربة، فإن عليها أن تطابق نتائج النظرية. ومن ثم تكون "القاعدة الأكسيومية" للنظرية (قاعدة المبادئ والمفاهيم) إبداعات حرة للعقل، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يجد لمفاهيم النظرية ومبادئها أي شكل من أشكال التبرير القبلي. هكذا أصبحت الفيزياء اليوم تتجه إلى الاعتماد على الرياضيات، بحيث أصبح "المبدأ الخلاق في العلم لا يوجد في التجربة، بل في العقل الرياضي" (إنشتاين).
لقد حاول غاستون باشلار G. Bachelad أن يظهر – بطريقته الخاصة - أهمية العقلانية العلمية، من خلال التأكيد على أن المواجهة الفلسفية بين توجه عقلاني محض، وتوجه تجريبي صرف لم تعد مواجهة قائمة في الفيزياء المعاصرة، نظرا للتداخل بين ما هو عقلاني وما هو تجريبي. فالواقع العلمي لم يعد بالضرورة هو الواقع المادي الصلب الذي يفرض نفسه على الذات من خارج، لأنه (الواقع العلمي) أصبح في قبضة ما هو عقلي. وبتعبير مغاير، إن العقلانية العلمية لم تعد تتشكل في إطار وعي مستقل عن الواقع، لأن الواقع العلمي أصبح واقعا يتدخل العقل في تحويله وتصحيحه. هكذا أصبح الواقع العلمي واقعا عقليا. (انظر مثلا إلى طبيعة الضوء، هناك نظرية تنظر إليه على أنه ذي طبيعة تموجية، وهناك نظرية تعتبره ذي طبيعة جسيمية). فما الذي يضمن، إذن، صدق النظرية العلمية؟
3. معايير صدق النظرية العلمية
إن إشكالية تحديد مصداقية النظرية العلمية يفترض مبدئيا التساؤل حول وجود معيار يمكن اعتماده كأداة للقياس. إن هذا يقود إلى التساؤل حول صلاحية مبدإ التحقق التجريبي كمعيار وحيد للتأكد من صدق النظرية العلمية. فمعيار التحقق يفترض التأكد من صدق النظرية العلمية من خلال ترجمتها الفعلية والتطبيقية على أرض الواقع، وبذلك كانت الفيزياء التقليدية تحتكم إليه، لأن القوانين والنتائج العلمية كانت تتأسس على مبدإ الحتمية (نفس الأسباب/الشروط تعطي دائما نفس النتائج)، وقابلة للتمثل على مستوى الواقع، وذلك ما يتيح التأكد من صلاحية النظرية عن طريقة التجربة مما يفسر الاعتماد المطلق على التجريب في تأسيس النظريات العلمية.
لكن مع ظهور الفيزياء المعاصرة، وبالتالي الاعتماد الكبير على العقل والفكر الرياضي، ستتغير طبيعة النظرية الفيزيائية، مما دفع بالعلماء إلى إعادة النظر في قيمة معيار التحقق التجريبي، هكذا بين بيير تويليي P. Thuillier أن القول بأننا نستنبط نتائج يمكن أن تخضع للتحقق التجريبي أمر قابل للنقاش، لأن هذا المعيار يظل مجرد معيار ضمن معايير مختلفة، والشيء المؤكد أن معيار التماسك المنطقي أصبحت له المكانة الأساسية..
إن ما تقدم يبين أن معيار صدق النظرية قد تحول من معيار التحقق التجريبي إلى معيار التماسك المنطقي، أي التأكيد على أن رجاحة نظرية علمية لم يعد يتوقف على صدقها التجريبي لأنه أصبح يتوقف على العلاقة المنطقية بين مكونات النظرية العلمية بدءا بالمفاهيم والمبادئ وانتهاء بالنتائج.
إن هذا النقاش، هو الذي فتح شهية العلماء والإبيستمولوجيين للتفكير في معايير جديدة تنضاف إلى معيار التماسك المنطقي، وفي هذا الإطار يندرج معيار التزييف falsification عند كارل بوبر K. Poper. إن هذا الفيلسوف يؤكد أن تمثله لهذا المعيار يتأسس على الاختلاف الذي يوجد بين معياره ومعيار التحقق لتجريبي. فمعيار التزييف (أو التكذيب) لا يلغي التماسك المنطقي، وإنما هو معيار للمقارنة بين الأنساق العلمية المختلفة. فهذا المعيار يبين أن نظرية علمية ما، غير قابلة لكي تكون كذلك إلا إذا كانت قابلة للتكذيب. إن التكذيب وحده يستطيع أن يبين حدودها العلمية. علما بأن قابلية التزييف لا تعني أن النظرية فارغة من كل معنى، لأن التزييف يحدد فقط المجال الذي تصدق فيه النظرية العلمية، فالمقارنة بين نظريتي نيوتن وإنشتاين تبين أن كلا منهما تكذب الأخرى، دون أن يعني ذلك الشك في صدق أو علمية أي منهما. إن كارل بوبر يعتقد أن التكذيب/الترييف من شأنه أن يدفع بالأنساق العلمية إلى أن تخوض صراعا مريرا من أجل البقاء.
كتخريج عام، يمكن التأكيد أن النقاش الدائر بين النظريات العلمية يجد نفسه في الاختلاف النظري بين العقلانية الكلاسيكية والعقلانية المعاصرة، حيث كان العقلانية الكلاسيكية تتصور تاريخ العلم كأنه تطور خطي تصاعدي تكمل فيه النظريات بعضها البعض، ومن ثمة تبدو كأنها تشكل نسقا واحدا في النهاية. لكن مع ظهور النظريات المعاصرة، تبين أن العلم – كما قال باشلار- يتطور على شكل قطائع ruptures إبيستيمولوجية. فكان من شأن ذلك مراجعة في النظرة التقليدية إلى العلم.
----------------------------------------------------------
العلوم الانسانية
لقد جاءت العلوم الإنسانية متأخرة النشأة قياسا بالعلوم الدقيقة، كما جاءت تلك النشأة، كنتيجة لما بدأت المجتمعات الحديثة تعرفه من قضايا نفسية واجتماعية جديدة ارتبطت بتطورها السريع.. هكذا أصبحت هذه العلوم تسعى إلى تحويل الإنسان إلى ظاهرة قابلة للدراسة العلمية الموضوعية. إلا أن تميز الإنسان واختلافه عن الظواهر الطبيعة جعل العلوم الإنسانية تعرف مشاكل إبيستيمولوجية من نوع خاص، ومن ثم بدأ العلماء يتساءلون حول مدى قدرة هذه العلوم على بلوغ دقة العلوم الطبيعية. لذا بدأ التحليل الإبيستيمولوجي يحاول المساهمة في حل القضايا ومعالجة الإشكاليات خصوصا منها تلك التي تربط بالمنهاج..
وحتى نتمكن من الوقوف على بعض الإشكاليات المرتبطة بالعلوم الإنسانية، سنحاول الاهتداء بالتساؤلات التالية: هل الظاهرة الإنسانية قابلة للدراسة العلمية الموضوعية؟ ما هي قدرة العلوم الإنسانية على فهم وتفسير الظواهر الإنسانية؟ هل يجب أن تؤسس العلوم الإنسانية نفسها ضرورة على نموذج العلوم الطبيعية؟
1. موضعة الظاهرة الإنسانية
يعتقد جان بياجي P. Piaget أن إشكالية موضعة الظاهرة الإنسانية جد معقدة نظرا لطبيعة العلاقة التي تربط الذات بالموضوع. فالذات التي تجرب على نفسها وعلى الغير تتغير نتيجة لما لاحظته، وما قامت بتجربته، كما تعمل على التأثير فيما تدرسه وتغير من مجراه ومن طبيعته. وهذا نموذج من الإشكاليات لا تعرفه العلوم الطبيعية، ففي هذه العلوم يستطيع العالم أن يميز نفسه عن الظاهرة المدروسة. أما في العلوم الإنسانية فإن إشكالية العلمية تظل قائمة لاعتبارين هما:
عدم الوضوح الكافي للحدود الفاصلة بين الذات والموضوع.
اعتقاد العالم بأنه يملك قبليات معرفية تجعله قادرا على الاستغناء عن التقنيات العلمية.
انطلاقا مما سبق يتبين أن إشكالية العلمية في العلوم الإنسانية تتحدد أساسا في التداخل بين الذات والموضوع الذي يشكل عائقا مركزيا يحول دون قدرة هذه العلوم على موضعة الظاهرة الإنسانية بشكل دقيق، الأمر الذي يسمح لجان بياجي بالتأكيد أن الباحثين في العلوم الإنسانية ينطلقون من خلفيات فلسفية وأيديولوجية.
وفي المقابل، يحاول فرانسوا باستيان F. Bastian أن يقلل من أهمية التداخل بين الذات والموضوع في العلوم الإنسانية، حيث يبين أن طبيعة الظاهرة المدروسة تحتم انخراط العالم في مجتمعه، ومن ثم يتبين أن الانفصال الذات والموضوع أمرا غير قائم حتى لو أراد العالم ذلك.. إن هذا ما يفسر، في اعتقاد باستيان، لماذا ركز رواد العلوم الاجتماعية على ضرورة تحقيق هذا التباعد وبالتالي أهمية اتخاذ مسافة بين العالم والمجتمع. هكذا دعى دوركايم Durkheim، مثلا، إلى ضرورة اعتبار "الظواهر الاجتماعية بمثابة أشياء"، كما أكد ماكس فييبر M. Weber على ضرور التمييز في المنظومة القيمية بين ما هو محلي وما هو كوني..
مما تقدم يتبين أن إشكالية موضعة الظاهرة الإنسانية، إشكالية إبيستيمولوجية، تتمركز أساسا حول التداخل الموجود بين الذات والموضوع، الأمر الذي ينفتح على التساؤل حول نوعية الوظائف العلمية التي تضطلع بها هذه العلوم الإنسانية، وما هي قدرتها على فهم الظواهر وتفسيرها؟
2. الفهم والتفسير في العلوم الإنسانية
يعتقد ليفي ستروس Lévi-Strauss أن العلوم الطبيعية علوم تفسيرية وتنبئية على الرغم من الصعوبات التي تطرحها العلاقة الموجودة بين الوظيفتين. لكن الأمر يختلف فيما يخص العلوم الإنسانية، لأن هذه العلوم لا تقدم سوى تصورات فضفاضة. وعلى الرغم من أنها علوم مهيأة في الأصل لكي تقوم بوظائف تنبئية إلا أن تنبؤاتها غالبا ما تكون خاطئة.
لهذا يرى ليفي ستروس أن العلوم الإنسانية تتموقع في الحقيقة بين التفسير والتنبؤ، وهذا لا يعني أن هذه العلوم غير ذات أهمية لأنها قادرة على أن تقدم للممارسين نوعا من الحكمة التي تتأرجع بين المعرفة الخالصة والمعرفة النافعة..
أما فيلهلم دلتاي Wilhelm Dilthey فله تصور مغاير تماما، حيث ينطلق من التمييز الميتودولوجي بين مساري كل من العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية. فإذا كانت الأخيرة تنظر إلى موضوعها باعتباره ظواهر خارجية ومعزولة؛ فإن العكس هو الذي يجب أن يحدث في العلوم الإنسانية، لأنه يجب أن نتمثل الحياة النفسية كوجود أولي وأساسي موجود في كل مكان. ومن ثم، تصبح العلوم الإنسانية وسيلة لفهم الحياة باعتبارها كلا معطى في التجربة الداخلية.. لذا أصبح من الضروري أن تختلف المناهج التي تعتمدها العلوم الإنسانية عن تلك المعتمدة في العلوم الطبيعية.
إن ما أكده دلتاي يدفع إلى طرح التساؤل التالي: هل يمكن للعلوم الإنسانية الاستغناء عن نموذجية العلوم التجريبية؟
3. نموذجية العلوم التجريبية
تتوقف علمية العلوم الإنسانية في نظر الباحثين لابورت-تولرا ووارنيي ( Laburthe-Tolra et Warnier ) على إدراك أن هذه العلوم تفترض أن تكون الذات هي نفسها الموضوع المدروس علاوة على أن العالم يعتبر طرفا وحكما في نفس الوقت، إلا أن ذلك لا يجب أن يؤثر في النظرة إلى القيمة العلمية لهذه العلوم، لأن الغاية الإبيستيمولوجية لإبراز التداخل الموجود بين الذات والموضوع يتحدد أساسا في تسطير الشروط المنهجية التي يجب اعتمادها والتي يجب أن تتوفر في العلوم الإنسانية. بل من المؤكد أن الفيزياء المعاصرة تعرف نفس الإشكاليات، مما جعلها تأخذ بعين الاعتبار تدخل الملاحظ في بناء الظاهرة مما يؤكد غياب القطيعة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية..
أما الفيلسوف ميرلوبونتي Merleau-Ponty فينظر إلى العلم باعتباره مجرد معرفة بعدية تأتي بعد حقيقة العالم المعيش الذي يعبر عن التجربة الأساسية للوجود الإنساني. ومن ثم، لا يجب أن ننظر إلى الإنسان باعتباره موضوعا لعلوم طبيعية أو إنسانية. فالذات الإنسانية تمثل المصدر الحقيقي للعالم المادي، فلولا وجود الذات لما كان للعالم أبعاد ولا جهات.. ومن ثم فالواقع يوجد انطلاقا من الذات ومن أجلها..
كتخريج عام، يتأكد أن إشكالية النموذجية التي يطرحها وجود العلوم الطبيعية، إشكالية ساعدت العلوم الإنسانية في البحث على تطوير نفسها وبالتالي البحث عن مناهج تتميز عن المنهاج التجريبي. وهكذا تظل الإشكاليات المطروحة ليس بالضرورة تشكيكا في القيمة العلمية لهذه العلوم، وإنما يتعلق الأمر بنقاش إبيستيمولوجي من شأنه أن يغني العلوم الإنسانية، ويدفع بها إلى تتوخى الدقة من خلال إدراك خصوصيات الموضوع المدروس. لأن جميع الصعوبات تتمثل في طبيعة الظاهرة الإنسانية باعتبارها ظاهرة معقدة، متغيرة، وواعية علما بأن الدارس هو من نفس طينة الموضوع المدروس.
----------------------------------------------------------------
الحقيقة
حينما نتذكر موقف فيتاغورس المشهور، والذي يؤكد فيه أن الإنسان لا يمكن أن يكون حكيما، وإنما مجرد باحث عن الحقيقة وساع باستمرار إلى المعرفة ؛ يحملنا ذلك إلى التساؤل حول مدى وجود حقيقة مطلقة وبالتالي التساؤل عن مدى وجود يقين يمكن أن يلتف حوله الناس... بل يمكن القول، إن إشكالية الحقيقة تنفتح على مصداقية الأحكام والتصورات والآراء التي تصدر عن الناس، و ما إذا كان بالإمكان الأخذ بها والسير وفقها. إن ذلك يبين أن الحقيقة في الاصطلاح العام والمتداول مفهوم معياري، لأن كثيرا من الناس لا يأخذون أي كلام أو أي فكر على محمل الجد إلا إذا اعتبروه حقيقة. من هذا المنطلق، أمكن طرح الأسئلة التالية: هل يمكن أن يرقى الرأي إلى مستوى الحقيقة ؟ هل بالإمكان الاستناد إلى معايير محددة لتمييز الحقيقة عن اللاحقيقة؟ هل للحقيقة قيمة ؟ وفيم تتمثل تحديدا؟
1. الحقيقة والرأي
إن إشكالية العلاقة بين الحقيقة والرأي تمتد جذورها إلى الفلسفة اليونانية، لأن كثيرا من الفلاسفة – وعلى رأسهم أفلاطون – كانوا يرفضون أن يرقى الرأي doxa إلى مستوى الحقيقة. ونفس الموقف يمكن أن نلمسه عند الإبيستيمولوجي المعاصر غاستون باشلار G. Bachelard: فعلى الرغم من تعدد الأنساق العلمية واختلافها أقام هذا المفكر العلاقة بين العلم والرأي على طرفي نقيض، لأن الرأي في اعتقاده خاطئ بالضرورة، بل إنه عائق إبيستيمولوجي يجب إزاحته وإبعاده وعدم الاكتفاء بتصحيحه. فتاريخ العلم – في اعتقاد باشلار - ليس إلا تجاوزا للأخطاء، كما أن العلم لا يسمح بتكوين آراء حول قضايا غير مفهومة، فكل شيء في العلم بناء عقلاني، أما الآراء فلا تسمح إلا بتكوين معرفة عفوية وتلقائية و بالتالي معرفة عامية.
وعلى خلاف ما سبق، نجد موقف بليز باسكال B. Pascal يفسح المجال لتدخل أداة أخرى لتمثل الحقيقة غير العقل. فالحقيقة، في اعتقاده، قابلة لتدرك بالقلب أيضا. إن العقل يستنبط الحقيقة، فيدركها ويتمثلها بشكل مباشر. والمبادئ التي يدركها القلب لا يستطيع العقل أن يبرهن على صدقها، لأنه يملك فقط أن ينطلق منها ويتخذها كأساس لاستنباط حقائق جديدة. إن ذلك ما يبين أن المبادئ التي يعتبرها باسكال حقائق تدرك بالقلب فقط تتحدد فيما يصطلح عليه، في التصور الفلسفي التقليدي، بالبديهيات.
وإذا كان باسكال قد اكتفى بتأكيد وجود حقائق متميزة عن العقل، فإن ليبنتز Leibniz يرى – عكس باشلار – أن الرأي يستحق أن يرقى إلى مستوى المعرفة. لأن الفيلسوف، يعتقد أنه لو لم توجد آراء محتملة، لما كانت هناك معرفة تاريخية ومعارف كثيرة. فيكفي التأكيد على أن رأي كوبيرنيك، الرافض لفكرة مركزية الأرض، كان وحيدا في عصره، ومع ذلك كان الاحتمال الأرجح. من هذا المنطلق أكد ليبنتز أنه أصبح من الضروري التفكير في تأسيس تفكير جديد لتمييز الاحتمالات وقياسها. وهذا التفكير من شأنه، أن تنتفع منه سائر العلوم، كما أن بإمكانه أن يساعد على تجاوز النقص الذي تشكو منه علوم المنطق.
إذا كان الاختلاف الفكري السابق، ينم عن اختلاف واضح حول علاقة الحقيقة بالرأي، فإن التساؤل حول وجود معايير قادرة على تمييز الحقيقة من غيرها أمر ضروري.
2. معايير الحقيقة
يعتبر ديكارت من أبرز الفلاسفة المحدثين، الذين أكدوا أن للحقيقة معايير دقيقة، نستطيع بواسطتها أن نتعرف عن المعرفة اليقينية ونميزها، خصوصا وأن هذا الفيلسوف لاحظ، أن ذهن الإنسان يحشى منذ الطفولة، بمعارف كثيرة قد يكون بعضها مشكوك في مصداقيته. كما حرص ديكارت على التأكيد، بأن العقل يعتبر الأداة المطلقة في المعرفة لأن الحواس تخدع. والعقل يصل إلى الحقيقة تارة بالحدس وتارة أخرى بالاستنباط. أما الحقيقة التي تدرك بالحدس، فمعيارها البساطة والوضوح والتميز، وتلك هي خاصية البديهيات العقلية، التي يستطيع العقل اتخاذها كأوليات لبناء واستنباط معرفة لاحقة: فالعقل يتدرج، أثناء بناء الحقيقة الاستنباطية، من البديهيات بطريقة برهانية ومن خلال حلقات حجاجية إلى أن يصل إلى حقائق جديدة. وما يميز هذه الحقائق عن البديهيات كونها تستمد صدقها مما قبلها.
إذا كان ديكارت يرى أن العقل يمثل أعدل قسمة بين الناس، فإنه يؤكد، في المقابل، أن الاختلاف المعرفي بين الناس يرجع إلى سوء استخدامه (العقل).. وعلى هذا الأساس، سعى الفيلسوف إلى وضع قواعد للتفكير السليم حصرها في أربعة:
أ. قاعدة البداهة: وهي قاعدة تحتم ألا يقبل العقل إلا ما هو بديهي وواضح بذاته ومتميز ولا يحتمل الشك..
ب. قاعدة التحليل: وتتمثل في تفكيك القضايا، التي لا تتوفر فيها المواصفات السابقة، إلى أبسط ما يمكن من الأجزاء..
ت. قاعدة الترتيب: وتحتم القيام بدراسة مكونات القضايا التي تم تفكيكها بدءا بالأجزاء البسيطة فالمعقدة (أو المركبة)..
ث. قاعدة المراجعة: وتتمثل في مراجعة الخطوات السابقة للتيقن من عدم إغفال أي شيء ودرءا للخطإ..
إذا كان ديكارت من الفلاسفة الذين يجزمون، على إمكانية إخضاع الحقيقة إلى معايير عقلية مضبوطة؛ فإن كانط ليس بإمكانه ذلك، لينطلق الفيلسوف من السؤال التالي : هل يوجد معيار كوني للحقيقة ؟ ليبين أنه إذا تعلق الأمر بمعيار صوري للحقيقة، فمن الممكن أن نؤكد وجود معيار كوني للحقيقة. لأنه، في هذه الحالة، ستتمثل الحقيقة في مطابقة الفكر للفكر، وبالتالي في التماسك المنطقي بين المقدمات والنتائج، ومن ثم سيكون معيار الحقيقة كامن في ذاتها.
لكن، إذا تعلق الأمر بإيجاد معيار كوني مادي للحقيقة، سيكون من المستحيل إيجاد هذا المعيار. لأن الإقرار بوجوده سيقود إلى إلغاء الاختلاف بين الأشياء والموضوعات وذلك أمر مستحيل. بل إن الأمر سيزداد تعقيدا إذا علمنا بأننا لا نعرف من الأشياء إلا كيفية إدركنا لها. أو بتعبير أوضح، إن كانط يؤكد أن الإنسان لا يعرف من الأشياء إلا ظواهرها بحيث يجهل النومينات (أو الأشياء في ذاتها).
إن المقارنة بين ديكارت وكانط هي مقارنة بين فيلسوفين يقر أولهما بوجود حقيقة ثابتة ومطلقة، وبالتالي وجود معايير مضبوطة، بينما يجزم الثاني على أن وجود معيار للحقيقة لا يستقيم إلا بالنسبة للحقيقة العقلية الصورية.. إن مثل هذا التقابل الفكري لا يمنع من التساؤل حول قيمة الحقيقة، خصوصا وأن هناك من يحاول تعريف الفلسفة باعتبارها بحثا دائما عن الحقيقة.
3. الحقيقة بوصفها قيمة
إن الفلسفة التقليدية، حسمت في قيمة الحقيقة، خصوصا لما حددت بعض مميزاتها في مطابقة الفكر للواقع، وبالتالي في الاعتقاد بأن ما يوجد في العقل، يعتبر صورة ونقلا أمينا للعالم الموضوعي. هكذا تكون الحقيقة مطلوبة لذاتها مما يحتم الاعتراف بأن قيمة الحقيقة تكمن في ذاتها.
يتفق الفيلسوف البرغماتي وليام جيمس W. James مبدئيا على أن الحقيقة فكر يطابق الواقع. لكن، شرط أن نعترف، أن المطابقة لا تتحدد فيما سلف ذكره، لأن مطابقة الفكر للواقع، في نظره، تعني أن تكون الحقيقة قادرة، في نفس الوقت، على تفسير الواقع، وتطويره، وقابلة للتحقق العملي على أرض الواقع. هكذا يتبين أن قيمة الحقيقة لا توجد في ذاتها، لأن الحقيقة أداة ووسيلة لتغيير الواقع المعيش، والدفع به نحو الأفضل. وفي تعبير موجز، إن قيمة الحقيقة تتمثل فيما هو عملي ومفيد للحياة الإنسانية.
أما نيتشه فله تصور مغاير تماما لأنه لا يرى فيما يعتبره الناس حقائق أية قيمة. فأصل الحقيقة التي يؤمن بها الناس ناجم عن رغبتهم في التعايش وبالتالي تجاوز حالة الحرب المطلقة التي تقود إليها الطبيعة الإنسانية التي تتأسس على مبدإ القوة. إن الناس في تصور الفيلسوف لا يطلبون الحقيقة لذاتها، خصوصا وأنهم لا يأملون في معرفة الحقائق المؤذية والصادمة ؛ وإنما يرغبون في المنافع المباشرة التي يجنونها مما يعتبرونه حقائق. ومن هذا المنطلق، يؤكد نيتشه أن أصل الحقيقة يتمثل في عقلنة الوهم ويتجلى ذلك، في التفاف الناس حول قيم الضعفاء (المساواة، التعاون، الرحمة ...)، في الوقت الذي يجب فيه الاعتراف بضرورة سيادة قيم الأقوياء (من ظلم وعنف وجبروت ..إلخ). هكذا، يعلن بأن الحقائق التي خلقها الناس ليست إلا أوهاما نسوا من فرط العادة والاستعمال أنهم خالقوها.
إن موقفا مثل هذا لا يثني فيلسوفا مثل إريك من أن يكون له تصور مغاير حول علاقة الحقيقة بالعنف. إنه تصور ينطلق من اعتبار العنف نقيضا للحقيقة وبذلك يبتعد عن التصور التقليدي الذي يضع الخطأ في مقابل الحقيقة. لكنه يرى في ذات الوقت، أن جذور الفلسفة التي تتأصل في اللاعنف تنسيها أن تنجد نفسها لمحاربة العنف، وبذلك يمكن للفلسفة أن تفقد كل قيمة. فإذا كانت الذات والخطاب الذي يصدر عنها مترادفان بحيث يكونان صورة لبعضهما، فإنه يتحتم على الإنسان أن يدرك أنه يئن تحت إكراهات الشقاء والحرمان والعنف، وعليه أن يعمل على مقاومة ذلك، خصوصا وأن خطورة العنف، اليوم، تتمثل في قدرته على تسخير العقل ليكون في خدمته... لذا، يتوجب على الإنسان أن يعمل على مقاومة العنف ومحاربته بواسطة العقل والممارسة العقلانية.
كتخريج عام، يتضح أن مفهوم الحقيقة إشكالية فلسفية يمكن أن تنفتح على تساؤلات متداخلة. بل، إن صعوبة تناول هذا المفهوم يتمثل في أن الحقيقة مفهوم يمكن أن يكون موضوعا لمقاربة فلسفية بنيوية كذلك، خصوصا إذا عرفنا أن الحقيقة يمكن أن تكون منتوجا اجتماعيا، وذلك ما جعل فيلسوفا كميشيل فوكو يقرن الحقيقة بالسلطة، مؤكدا أنه يمكن لكل مجتمع أن يخلق الخطاب الذي يعتبره حقيقة. وذلك حتما لن يؤكد تغاير الحقيقة واختلافها من مجتمع إلى آخر، وإنما من شأنه، أيضا، أن يعيد النظر في قيمة الحقيقة ونوعية المعايير التي يمكن اعتمادها كأساس لتمييز الحقيقة عن أضدادها..
-------------------------------------------------------
الدولة
إن قراءة سريعة في الاستعمالات المتداولة لمفهوم الدولة تبين أن هذا المفهوم يكتسي معان متغايرة، حيث يظهر تارة في صورة الحكومة وتارة أخرى يأتي بمعنى النظام، كما يشار به أحيلنا إلى المؤسسات العمومية..إلخ. في حين أن مفهوم الدولة يشير إلى كل كيان سياسي يبسط نفوذه وسيادته على رقعة جغرافية معينة، ويفترض في سكانه أن يشعروا تجاهه بالمواطنة والانتماء. إن الدولة كيان لا يمكن أن نتمثل أبعاده دون إثارة مفاهيم مثل السيادة، والسلطة، والحق، والقانون، والحرية. وذلك ما يبين أن إثارة مفهوم الدولة هو في الواقع محاولة لإثارة تساؤلات متداخلة من قبيل مايلي: مم تستمد الدولة شرعيتها وفيم تتحدد غاياتها؟ ما هي طبيعة السلطة السياسية التي تمارسها الدولة؟ هل السلطة التي تمارسها الدولة مستمدة من القانون أم من القوة والعنف؟
1. مشروعية الدولة وغاياتها
يعتقد سبينوزا أن غاية الدولة تتمثل في ضمان الحماية للأفراد، وليس في ممارسة السلطة. بل إن على الدولة أن تضمن الشروط الموضوعية التي تمكنهم من استخدام عقولهم والعمل على تنميتها. ومن ثم يؤكد الفيلسوف أن الحرية هي الغاية الأساسية من وجود الدولة. إلا أن ذلك، لا يعني التصرف المطلق بطريقة فيها إيذاء للغير، خصوصا وأن من الناس من فطر على استعمال الشهوة، ومن المعلوم أيضا أن الجميع ميال إلى الاعتقاد أنه دائما على صواب.
هكذا دعى سبينوزا إلى الاحتكام إلى العقل والابتعاد عن الحقد والغضب والخداع. ومن ثمة، كان لابد أن يدرك الأفراد أن تقنين الحرية الفردية ضرورة حتمية وحصرها في حرية التفكير والتعبير وإصدار الأحكام، دون أن يكون في نية الفرد تغيير الأشياء لأن الدولة وحدها تملك سلطة اتخاذ القرار.
أما هيغل، فيحذر من الخلط بين الدولة والمجتمع المدني، لأنه يعتقد بأن هناك غايات تتجاوز الدولة نفسها، وتتمثل في تحقيق أبعاد كونية. هكذا يتصور الفيلسوف أن العلاقة بين الإرادة الفردية والإرادة الجماعية في تفاعل جدلي، لتصبحا إرادة مشتركة تترجم الدولة من خلالها تعاقدا بين الأفراد. وبما أن هيغل يؤمن بأن أصل الوجود هو الفكرة المطلقة، فإنه يعتقد بأن وجود الإنسان يتحدد أساسا في العمل على أن يرجع الوجود إلى أصله. هكذا يكون مصير الإنسانية مرتبطا ومتلاحما في تحقيق ما هو كوني، لأنه لا يوجد إلا روح واحد ومبدأ واحد يعبر عن نفسه في جميع منجزات الإنسان.
إن التقابل الموجود بين تمثل كل من هيغل وسبينوزا حول شرعية الدولة وغاياتها يدفع إلى طرح السؤال التالي: ما هي نوعية السلطة السياسية التي تمارسها الدولة؟
2. طبيعة السلطة السياسية
يرى ماكيافيلي Machiavel أن التجارب اليومية تؤكد أنه على الرغم من مدح الناس للأمير العادل، فإن عظمة الحكام ترجع إلى استعمالهم لأساليب المكر والخداع. ومن ثم ينصح هذا المفكر كل أمير بضرورة الجمع بين القانون واستعمال القوة والعنف، فلا حكم إلا لمن يستطيع الجمع بين القوة، والمكر، والخداع. فعلى الحاكم بالتالي أن يكون قادرا على خيانة الأمانة ونقض العهود، خاصة عندما لا يخدم الوفاء مصلحته أو عندما تنتهي أسباب ودواعي إقامة تلك العهود. فرعاية الأمانة أمر لا يستقيم إلا مع رعية مكونة من الأخيار، وبما أن ذلك ليس هو حال الناس فلا مناص من لجوء الحاكم إلى ما سبق ذكره. بل إن ماكيافيلي، ينصح الحاكم (الأمير) بأن يجيد أساليب التمويه والخداع حتى لا يفتضح أمره، خصوصا وأن سذاجة الرعية تجعلهم ينقادون بسهولة نحو الانخداع...
وفي مقابل ذلك، يرى ابن خلدون أن السلطة السياسية يجب أن تتأسس على الاعتدال، والرفق بالرعية. فهذه الأخيرة لا يهمها من الحاكم لا صفاته الجسمية ولا قدراته العقلية. إن الرعية تهتم فقط بما يمكن أن يلمسوه من تأثير الحكم على حياتهم: فإذا تأسس الحكم على الاستبداد والتربص بالرعية، فعلى الحاكم أن يتوقع خذلان رعيته عند حاجته إليها. وفي المقابل، إذا كان حليما، وعطوفا، تناسوا سيئاته وأحبوه.
أما ألان تورين A. Touraine فيعتقد أن السلطة السياسية ترتبط عضويا بقوة النظام الديمقراطي. هكذا يؤمن بأن قوة الديمقراطية رهينة باحترام الحقوق المدنية والاجتماعية. فالديمقراطية هي النظام السياسي الوحيد الذي يسمح بتشكل الفاعلين الاجتماعيين، ويتيح لهم فرص المشاركة الحرة. ذلك ليبين أن هدف الديمقراطية لم يعد يتمثل في مواجهة نمط جديد من الممارسات التي تتبنى الحداثة، وتحتمي بالشعب، لكنها لا تتيح للناس أي فرص للمبادرة الحرة. لذا أصبحت الديمقراطية مضطرة لمحاربة الأنظمة العسكرية الاستبدادية، علاوة على محاربة الأحزاب الكليانية. خصوصا وأن هناك من يستغل مفاهيم الديمقراطية، إما لخلق أنظمة استبدادية أو للعمل على استنبات ممارسات اقتصادية فردانية تقوم على اقتصاد السوق وتدفع نحو تعفن الدولة... ليستنتج ألان تورين، أن أساسيات النظام الديمقراطي تتمثل في الاعتراف بالحقوق الاجتماعية، وشرعية القيادات، والشعور بالمواطنة..
إن المقارنة بين التمثلات السابقة نبين أن بعضها يدعو إلى المحافظة على كرامة الإنسان بينما يدعو البعض الآخر إلى غياب الأخلاق في الممارسة السياسية. وكيفما كان الحال فلا يمكن لأي أحد أن ينكر أن جميع الدول تضطر إلى اللجوء إلى أشكال من الزجر والإكراهات المادية والبدنية، وذلك ما يسمح لنا بالتساؤل حول علاقة الدولة بالعنف. ومن ثم التساؤل: إلى أي حد نستطيع أن نسمي تلك الإكراهات عنفا؟
3. الدولة بين الحق والعنف
يعتقد السيولوجي الألماني ماكس فيبر M. Weber أن الدولة باعتبارها تجمعا سياسيا غير قابلة للتعريف إلا من خلال العنف. فالعنف المادي يعتبر الوسيلة الوحيدة التي تسمح للدولة بممارسة سيادتها، وبدون العنف ستعم الفوضى. كما يؤكد المفكر بأن الدولة تملك الحق في استعمال العنف، فهو إذن عنف مشروع لا يمكن أن يمارسه أي فرد دون موافقة الدولة.
أما بول ريكور P. Ricoeur فيرى أن حقيقة الدولة تتجلى في قدرتها على الجمع بين ما هو عقلاني واقتصادي. فالعقلانية تجعل الدولة تعتمد على نوعين من المؤسسات : مؤسسات تكوينية وأخرى زجرية. ذلك ما يعني أن الدولة تلعب دور المربي من خلال المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام، إلا أنها تعتمد كذلك على القوة وتضطر اللجوء إلى إكراهات زجرية. ولعل ذلك هو ما دفع بماكس فيبر إلى إدماج العنف المشروع كمكون أساسي للدولة الأمر الذي يرفضه بول ريكور لأنه يعتقد أن الدولة لا تقبل التعريف إلا من خلال ممارسة السلطة والسيادة.. فمن واجب الدولة أن تتوفر على بيروقراطية منسجمة وقضاء مستقل، ومراقبة بؤلمانية، وتربية الأفراد على المناقشة الحرة. إن هذه المبادئ، تشكل بعض معايير دولة الحق التي تلعب فيها الحكومة دور الرقيب.
وفي نفس السياق الفكري تؤكد جاكلين روس J. Russ بأن دولة الحق أصبحت واقعا معيشا، ولم تعد كيانا مجردا. فدولة الحق تتجلى في الممارسة المعقلنة للسلطة، وتسعى إلى توفير الحريات الفردية وبلورة الحريات العامة. لأن الدولة توجد لخدمة الفرد (وليس العكس)، لأنها تعتبره قيمة مؤسسة. فالدولة إذن "تحتل مرتبة بعد الإنسان لما أصبح يمثله من معيار أسمى" و"سلطة دولة الحق تتخذ ملامح ثلاثة : القانون، الحق، وفصل السلط". فلا يمكن أن يوجد حق دون قانون عادل وصريح. كما أن إحقاق الحق مستحيل دون فصل السلط (السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، السلطة القضائية).
كتخريج عام، يتبين أن مفهوم الدولة من المفاهيم الأساسية التي لا بد من إثارتها فلسفيا. وأهمية هذا المفهوم تتجلى في اهتمام فلاسفة اليونان به. كما أن الرجوع إلى التاريخ الإسلامي يثير الصراعات التي خاضها المسلمون أجل ترسيخ هذا المفهوم. وفي الوقت الراهن، فإن طرح مفهوم الدولة يستدعي بالضرورة إثارة مفاهيم كثيرة مثل الديمقراطية، والمواطنة، وحقوق الإنسان. ويلاحظ أن كثيرا من الناس يتشدقون بهذه المفاهيم لفرط سماعها واستعمالها، إلا أن السلوكيات تدل عن بعدهم عنها، ومن ثمة لابد أن ندرك أن بناء الدولة فعل جماعي يتأسس على الوعي وتمثل الذات والآخرين في حدود الحق والواجب، وأن الدولة وحدها تستطيع أن تمنح الناس الشعور بالانتماء.
----------------------------------------------------------
و أخيرا خلاصة شاملة
الشخـص
ذات واعية قادرة على التمييز بين الشر و الخير و بين الصدق و الكذب و تتحمل مسؤولية أفعالها و اختياراتها حيث يمر الشخص على عدة حالات مختلفة , فما أساس هوية الشخص ؟ وما طبيعة قيمته ؟ و هل الشخص حر أم خاضع لحتميات؟
أساس هوية الشخص :
ديكارت : أساس هوية الشخص هي الذات المفكرة
جون لوك : أساس هوية الشخص هو الإحساس
فرويد : أساس هوية الشخص هي الوحدة الدينامية بين مكونات الجهاز النفسي
طبيعة قيمة الشخص :
هيجل - غوسدروف : تتمثل قيمة الشخص في انفتاحه على الأخرين
موني : يقول مني أن قيمة الشخص مطلقة و مرتبطة بإرادته و وعيه
الشخص بين الضرورة و الحرية :
فرويد : الشخص ذات خاضعة لإكراهات لا شعورية " الأنا خاضع للضغط من ثلاث جهات وظيفته التوفيق بينها "
موني : حرية الشخص تكمن في اندماجه مع الجماعة " إن الإنسان هو الذي يقرر مصيره بنفسه "
سارتر : حرية الشخص مطلقة " الإنسان محكوم عليه أن يكون حرا و لا يمكنه أن يرفض ذلك "
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
الغيــــــــــــــر
الغير هو الأنا الذي ليس أنا كما يقول سارتر , وهو مخالف للأنا ومشابه له في نفس الوقت
طبيعة وجود الغير :
لاشوليه :- النزعة التشييئية – الغير موضوع أي متعلق بما هو بيولوجي
ميرلوبونتي : ينتقد التصور التشييئي للغير و يعتبر الغير ذات و موضوع في نفس الوقت أي أن طبيعة الغير مزدوجة "وجود في ذاته و لذاته "
سارتر : الغير ذات فقط " الأنا الذي ليس أنا "
معرفة الغيـــر :
ميرلوبونتي + هوسرل : معرفة الغير ممكنة في البيذاتية " التداخل الذاتي "
سارتر : معرفة الغير مستحيلة
مالبرانش : معرفة الغير صعبة
العلاقة مع الغير :
أرسطو : العلاقة مع الغير علاقة تكامل ( الصداقة )
كريستيفا : أساس العلاقة مع الغير تتمثل في التكامل – الغرابة كنموذج- " إن الغريب يسكننا على نحو غريب "
سارتر : أساس العلاقة مع الغير علاقة صراع " الجهيم هم الآخرون "
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
التاريخ
الإنسان كائن تاريخي له ماض يعتبر بمثابة ذاكرة يحتفظ بها بوقائعها و أحداثها التي حققها
المعرفة التاريخية :
ابن خلدون : التاريخ ليس مجرد سرد للأحداث بل نظر عقلي فيه
مارو : التاريخ هو معرفة الماضي الإنساني
غرانجي : التاريخ إما مجرد معرفة تميل إلى الأدب أو إيديولوجيا
دور الإنسان في التاريخ :
ماركس : الناس يصنعون تاريخهم في ظل الصراع الطبقي
سارتر : الإنسان صانع التاريخ " الإنسان هو نتاج نتاجه الخاص .وهو فاعل تاريخي في نفس الوقت "
التاريخ و فكرة التقدم
ماركس : التاريخ مبني على التناقض و هو منطقه
آرون : التقدم التاريخي احتفاظ و تجديد أي الإستجابة لأعمال الجيل السالف و إضافة أشياء أخرى له
ستراوس : ينتقد التصور الخطي و يقول أن التقدم ليس سلسلة من الحلقات بل يتضمن الخسارة او الربح و تحكمه الصدفة
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
النظرية و التجريب
النظرية هي التأمل العقلي و هي نشاط عقلي يفضي إلى إنتاج أفكار قد تكون لها قيمة معرفية
ما التجربة و ما التجريب ؟
كويري : التجربة ملاحظة عامية للطبيعة و التجريب ملاحظة منهجية للطبيعة
كلود برنار : التجريب انفتاح على الواقع لاختبار صحة فكرة ما
روني توم : ينتقد التصور الكلاسيكي الذي يعتقد أن التجريب وحده يتيح التحليل السببي للظواهر و يقول بالمقابل أن العلم لا يمكنه أن يكون علما إلا إذا انفتح عل الإفتراضي و الخيال
معيار النظرية :
دوهيم : - التجريبيون – معيار النظرية هو التجربة أي مطابقـتها للواقع
بوبر : معيار صلاحية النظرية هي قابليتها للتكذيب
العلوم الإنسانية
مشكلة موضعة الظاهرة الإنسانية
كانط + دوركهايم : الإنسان موضوع يشبه موضوعات الطبيعة , يقول دوركهايم "يجب دراسة الظواهر الطبيعية كأشياء "
فوكو : الظاهرة الإنسانية معقدة
بياجي + ستراوس : الظاهرة الإنسانية تتداخل فيها الذات و الموضوع ومن تم يصعب تحليلها و فهمها
بقول ستراوس " الوعي بمثابة عدو خفي في العلوم الإنسانية "
التفسير و الفهم في العلوم الإنسانية
كانط + دوركهايم : وظيفة العلوم الإنسانية التفسير
بوبر + مونرو : وظيفة العلوم الإنسانية الفهم
غرانجي + ستراوس : الفهم و التفسير
-----------------------------------------------------------------------------
الحقيقة
الرأي و الحقيقة
ديكارت : يجب التخلص من الآراء لبناء الحقيقة
باسكال : القلب مصدر المبادىء و العقل مصدر القضايا
لايبنيز : الرأي القائم على الإحتمال يستحق اسم المعرفة
معيار الحقيقة
ديكارت + اسبينوزا + لايبنيز : – المذهب العقلاني – معيار الحقيقة هي مطابقة الفكر لمبادئه ( البداهة و الوضوح )
هيوم + جون لوك : - المذهب التجريبي – معيار الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع
كانط : -مذهب توفيقي – مطابقة الفكر للواقع و لمبادئه
قيمة الحقيقة
كانط : الحقيقة قيمة معرفية و أخلاقية
Tags:
Arabic