التواصل مع الكائنات الماورائية وتحظير الأرواح ( عجيب )


".. إن معظم الكائنات المتجسّدة خلال جلسات تحضير الأرواح هي عبارة عن كيانات غير مادية تتنكّر داخل مجسمات أثيرية مؤلفة من محتوى فكري ينبع من الوسيط ذاته والذي يرغب في تحضير ومشاهدة هذه الكائنات غير المادية.."







مانلي بالمر هول
الكائنات الخفية وعالم الماورائيات

لقد عُرف التواصل مع الكائنات الغيبية منذ بدايات التاريخ. وكانت تختلف هذه الكائنات الماورائية حسب اختلاف ثقافة القبيلة أو الحضارة أو الشعب، وبالتالي اختلفت أوصاف هذه الكائنات وتسمياتها. فعرف مفهوم الجن، والشياطين، والعفاريت، والأرواح، والأشباح، والغول، والمارد، والحوريات، والملائكة... وغيرها. كل شعب كان يتميز عن غيره بكائناته الغيبية والتقاليد التي تحكم التعامل معها.

كان التواصل مع الآلهة (من خلال طقوس ومراسيم وشعائر مختلفة) مألوفاً بين جميع الكهنة القدماء. وقد وصل إلى مرحلة متقدمة بين كهنة مصر الفرعونية، واليونان، والصين، وكهنة التبت، واليابان والهنود والأشوريين، والسلتيين. أمَّا الأنبياء والقديسون والروحانيون الذين ظهروا في زمن الرسالات وقبله وبعده، فقد استلهموا إرشاداتهم المقدَّسة عن طريق هذا النوع من التواصل رغم اختلاف المظهر والأسلوب.

كان العالم القديم محكوماً تماماً بهذا المنطق الغريب، المختلف عن المنطق الذي نألفه الآن. منطق يعتمد على مفاهيم ما ورائية تربط عالمنا المادي الملموس بعالم آخر غير مرئي تسكنه كائنات غير مرئية ويبدو أن تأثيرها كان واضحاً على طريقة حياة القدماء وتفكيرهم وسلوكهم وتعاملهم مع بعضهم البعض. ما هو عالم الغيب هذا، أو عالم الأرواح الذي تحدث عنه القدماء؟.. وما هي حقيقة هذه الكائنات الغيبية التي تعاملوا معها واعتمدوا عليها في تسيير شؤونهم اليومية وحتى المصيرية؟

كيف يمكن أن تسود هذه الأفكار وتنتشر بين تلك الشعوب لولا استنادها على بعض من المصداقية؟ فهي الشعوب ذاتها التي بنت حضارات عظيمة لازالت آثارها تفتن القلوب وتجعل الباحثين يتخبطون في حيرة ودهشة ويقفون بخشوع أمام عظمة تلك الإنجازات الجبارة.

في الحقيقة، لا نستطيع بناء صورة واضحة وصريحة عن حقيقة الواقع الذي عايشته هذه الشعوب القديمة. لا نستطيع تحديد بدايات وأصول هذه المفاهيم بدقة ولا حتى تفاصيل هذه الممارسة التي احتلت حيِّزاً كبيراً من حياتهم اليومية. كل ما لدينا من معلومات حول هذه الأمور المثيرة للجدل جاءتنا من مصدرين رئيسيين ولا يمكن الاعتماد عليهما في بناء نموذج حقيقي أصيل خالٍ من الشوائب والتفسيرات الملتوية وأحيانا مزورة وملفقة: المصدر الأوّل هو دراسات المؤرخين المنحازين تماماً لسلطات فكرية ـ دينية مختلفة معادية تماماً لتلك الشعوب المندثرة. فلا نستطيع مثلاً الاعتماد على المؤرخين المتدينين الذين يعتبرون أرسطو وسقراط وهيراقليطوس... وغيرهم من مفكري العالم القديم بأنهم وثنيين ومتوحشين غير متنورين لأنهم عاشوا في عصر جاهلي قبل زمن الرسالات. أما الباحثون العلمانيون الذين برزوا بعد عصر النهضة، خاصة علماء الانثروبولوجيا، وعلماء الاجتماع، وحتى علماء الآثار، فيكفي أن نعلم بأنهم كانوا (وبعضهم لا يزال) يشيرون في دراساتهم إلى الشعوب القديمة بالإضافة إلى الشعوب الوثنية المعاصرة المنتشرة في أرجاء مختلفة من العالم حالياً، بأنهم متوحشونSAVAGES أو بدائيين PRIMRTIVES، ولا تخلوا دراساتهم من عنصر الترفع والاستعلاء على تلك المجتمعات.

فنستنج حينها بأن هذه الشعوب لم يتم إنصافها إطلاقاً. وللأسف الشديد، جميع المراجع التي تناولت العهود القديمة هي مراجع من هذا النوع. أما المصدر الثاني فهو المخطوطات التي تحتوي على تعاليم سحرية مقززة للنفوس، جاءتنا من أوساط مشبوهة كالمشعوذين الدجالين وطالبي الرزق الذين ينسبون علومهم إلى عصور غابرة مما يجعلنا نصدق هذا الكلام فنمقت القدماء وطريقة تفكيرهم معتمدين في حكمنا هذا على ما نراه من مظاهر مقيتة مصدرها هؤلاء المشعوذين.

من أين جاء مفهوم عالم الغيب والتواصل مع الكائنات الغيبية؟
ليس لدينا أي دليل يشير إلى أصول أو مصدر هذه الفكرة التي كانت ولازالت تعتبر الأكثر إثارة للجدل. ولكي نتوصل لنتيجة مجدية، كل ما نستطيع فعله هو الاعتماد على الاستنتاجات التي نخرج بها من خلال قراءة ما بين سطور تلك الدراسات والمراجع المحرّفة التي تناولت هذا الموضوع بانحياز وعدم الإنصاف.

ساد في تلك الأزمنة أيضاً الاعتقاد بالروح المرشدة (أو الروح المرافقة)، وتختلف مفاهيمها باختلاف ثقافات القبائل والحضارات والشعوب. لكنها تلتقي جميعاً وتتمحور حول الاعتقاد بأن الطفل الصغير يولد معه روح مرشدة لكي تحميه وترشده في خوض معترك الحياة، ولولاها لما استطاع البلوغ إلى مرحلة الرشد (الرجولة). وهذه الروح المرشدة لا تظهر تلقائياً أو تتجلى بسهولة أمام صاحبها حيث وجب على الشخص أن يتَّبع طريقة محددة (حسب اختلاف الثقافات) بحثاً عن روحه المرشدة والتواصل معها. وقد اختلفت الطرق والأساليب بين القبائل والحضارات. يمكن أن تكون عبارة عن الالتزام بخلوة مع ألذات في مكان معزول حيث يتم ُّالتواصل مع الروح بعد مضي فترة من الزمن على عملية الاختلاء، أو يمكن أن يتبع أفراد بعض القبائل طقوس الرقص البحراني (كقبائل الزوني)، يقام هذا النوع من الرقص في حفلات صوفية نشطة حيث يدخل الفرد المحتفل به في حالة بحران (شبه غيبوبة) خلال الرقص على إيقاعات محددة، فيتواصل مع روحه المرشدة. وهناك بعض القبائل يتناول أفرادها أعشاب مخدرة (مثل الماريجوانا) فيدخلون في حالة وعي بديلة ويتواصلون مع روحهم المرشدة. وساد بين الهنود الحمر الذين سكنوا أمريكا الشماليَّة تقليد يسمى بالسعي للبحث عن رؤيا. فعندما يبلغ الطفل سن مبكرة من عمره، يرسله والديه إلى الطبيعة ليسرح وحيداً في البراري، ذلك من اجل البحث ومن ثم التواصل مع روحه المرشدة. هذه العملية كانت تعتبر ضرورية حتى ينال بعدها الطفل القدرة على التواصل مع عالم الغيب ومن ثم يصبح مستعداً للدخول في مرحلة البلوغ (الرجولة) دون مواجهة صعوبات. فيسرح الطفل ويتجوّل وحيداً في العراء ثم يخيّم في مكان معزول تماماً، فيخوض مرحلة صوم قاسي يدوم أحياناً أياماً عديدة، يمتنع خلالها عن الطعام والشراب، ويبدأ بالصلوات والتأمّل، ويصيح طالباً الحصول على رؤيا أو إشارة تدلّ على تجاوب روحه المرشدة معه. وبعد مرور فترة على خلوته، يدخل الفتى في غيبوبة أو يأتيه حلم أثناء نومه العادي فتتجسد روحه المرشدة فيتواصل معها. فيستمد بعدها الفتى قوة فكرية وعقلية استثنائية (حدس قوي) بالإضافة إلى إحساس سليم بغاية معيّنة أو هدف رئيسي في الحياة. وهذا يجعله يدخل معترك الحياة بثقة وإقدام ومن ثم يخوضها بنجاح.

أما الشامانيون (أطباء القبائل)، فكان لهم أرواحاً مرشدة خاصة بهم. لكنها تتميّز عن أرواح الأشخاص العاديين. فلا يستطيع أحد أن يصبح شامانياً إلا إذا تواصل مع هذا النوع من الأرواح المميزة التي تتمتع بقدرات سحرية استثنائية. فهذه الأرواح تمدُّ الشاماني بقدرات سحرية هائلة، بالإضافة إلى قيامها بأخذ مكانه في جسده أثناء الغيبوبة (أي تختفي شخصية الشاماني وتظهر شخصية أخرى تماماً وتتواصل مع الحضور وتجيب على أسئلتهم المختلفة). ويمكن للشاماني أن يحضّر الروح المرشدة أمامه ويراها شخصياً ويتحدث معها ويستعين بها لإتمام مهماته المختلفة.




وساد أيضاً بين القبائل مفهوم الأرواح المرشدة الجماعية. أي تلك التابعة للأصنام التي عبدوها TOTEM. فكانت تحمي كامل القبيلة من الشرور وتجلب لها الخيرات. (تذكروا هذه الفكرة جيداً)




أما مفهوم الاستحواذ possession، فكان راسخاً بقوة في طريقة تفكير القدماء. ويقصد به أن شخصية الفرد تختفي بطريقة غامضة لتأخذ مكانها شخصية أخرى غريبة، تختلف تماماً عن شخصيته الأصلية. وهذا الاستحواذ له مظاهر كثيرة. فعرف ما يسمى باستحواذ الشيطان (لكن هذه الحالة اعتبروها فيما بعد بأنها الجنون العادي أوالهستريا أو الانهيار العصبي). وهناك الاستحواذ اللاإرادي، أي تتخذ شخصية الفرد شخصية أخرى غريبة عنه بينما تتراجع شخصيته الأصلية وتختفي تماماً حيث يستطيع بعدها أن يتكلم بلغات غريبة لم يتعلمها من قبل في حياته.



أما المظهر الأكثر إثارة الذي ساد بين أفراد بعض المجتمعات فهو الدعوة للأرواح (أو الجن أو الآلهة أو الملائكة أو الأموات أو غيرها من كائنات غيبية أخرى التي تختلف حسب اختلاف الثقافات) أن تدخل إلى أجسامهم بشكل إرادي، ومن ثم التواصل مع الأحياء لإرشادهم أو تزويدهم بمعلومات غيبية. وهذه المظاهر موجودة بين العديد من المذاهب الصوفية الإسلامية حيث يقيمون الصلوات والرقصات وغيرها من طقوس مختلفة من أجل استحضار الأرواح (أو الجن)، ويمكن أن تكون الروح التي ينادونها هي تابعة للسيد أو الشيخ الذي وجد هذا المذهب لكنه متوفى. وبعد أن يدخلون في حالة بحران أو غشية يقومون حينها بأعمال استثنائية وإنجازات خارقة كغرس السيوف في أجسادهم أو المشي على النار أو غيرها من معجزات.

هناك طوائف مسيحية عديدة تعتقد بظاهرة الاستحواذ من قبل روح القدس، ويمارسون طقوساً معيّنة من أجل استحضاره فيستحوذ عليهم ويعمل على شفاء الكثير من الممارسين من العلل والأمراض بالإضافة إلى إنجازات استثنائية أخرى. وطوائف مسيحية أخرى تقيم الصلوات من أجل التواصل مع روح القدس كي تمنحهم الإلهام والإرشاد والمساعدة، لكنهم لا يسلكون طريقة الاستحواذ.



أشهر الأرواح التي لازالت مجموعة بشرية كبيرة تناديها لمعالجتهم هي العائدة لشخصية الطبيب الفنزويلي خوسيه هيرناندز JOSE HERNANDEZ ، والمثير في الأمر هو أن هؤلاء يشفون فعلاً، حتى من السرطان!. إن كل مواطن من سكان فنزويلا يعرفون روح هذا الرجل جيداً ومعجزاتها غير المحدودة.


وعرفت هذه الظاهرة عند الإغريق، فكان المتنبئون والعرافون يستحوذون من قبل الأرواح أو كائنات غريبة أخرى، يحصل هذا بعد أن يدخلوا في حالة بديلة من الوعي (غشية أو شبه غيبوبة) فيتنبؤن بالمستقبل ويزودون الحضور بمعلومات غيبية (اشهر مراكز التنبؤالإغريقية كان معبد دلفي DELPHI).

وقد لعب مفهوم الاستحواذ دوراً رئيسياً في الطقوس الدينية والعبادية عند سكان جزر الكاريبي، والأمريكيتين، والشرق الأوسط، والهند، وأفريقيا. أما الدرويديون (كهنة الديانة السلتية التي سادت في بريطانيا وأيرلندا) فمارسوا هذه الطريقة
خلال قيامهم بالحفلات السنوية من أجل استحضار الآلهة الأمGAIA لكي تستحوذ عليهم وتزودهم بالطاقة الإلهية المقدَّسة.



وهناك مخطوطات صينية قديمة تعود لأربعة آلاف عام تتكلم عن عرافين صينيين يتعاملون مع الأرواح يشار إليهم باسم wu، وكان الأباطرة يستشيرونهم في مسائل مصيرية كثيرة شخصية ورسمية تخص الدولة، فكان هؤلاء الوسطاء الروحيين ينقلون النصائح القادمة من الأرواح إلى الإمبراطور.

أمثلة كثيرة تشير إلى أن الاستحواذ كان يلعب دوراً رئيسياً في العالم القديم، إن كان ذلك في الطقوس الدينية أو في الحياة اليومية للشعوب. ولم يكن التواصل مع عالم الغيب مقتصراً على شعب معيّن أو مذهب فكري أو روحي معيّن، أو محصوراً ضمن منطقة أو بلاد معيّنة. جميع سكان الأرض كانوا في إحدى فترات التاريخ القديم يتواصلون بطرق مختلفة مع عالم الغيب أو عالم الأرواح أو الملائكة أو الجن أو غيرها من كائنات أو كيانات خفيَّة. وكان يقتصر هذا التواصل على نوع معيّن من الأشخاص لديهم القدرة على التواصل بسهولة (أي وسطاء) كالشامانيين أو الكهنة أو العرافين... فكانوا يدخلون في حالات بديلة من الوعي (غيبوبة، شبه غيبوبة، بحران...) تختلف أساليبها وطقوسها حسب اختلاف الثقافات أو العادات أو المعتقد، فيتواصلون مع عالم الغيب أو الكائنات التي تمثله.

إن ظاهرة التواصل مع عالم الغيب ليست مهنة أو حرفة مبتكرة ظهرت في إحدى مراحل التاريخ. بل تعود إلى ما قبل التاريخ، منذ ظهور الإنسان على الأرض. وشكلت جزءاً أساسياً من تجربة الإنسان اليومية منذ انبعاثه إلى الوجود. وتعتبر عنصراً أساسياً في أصول وبدايات أعظم المذاهب الروحية التي برزت عبر التاريخ. فهذا المفهوم ليس محصوراً فقط في مجال ضيّق يمثل السحر والعرافة والتبصير وقراءة الطالع والتنجيم وغيرها من مظاهر مختلفة نألفها اليوم، والتي تعتبر من قبل الكثيرين ضرباً من الشعوذة والنفاق. هذا التواصل الروحي يشكل مظهراً مهماً من مظاهر الوعي الإنساني... تجربة أساسية من تجارب الإنسان وخبرته في الحياة. ومع ذلك، لازلنا نجهل حتى هذه اللحظة ما هي حقيقة هذه الظاهرة وما الهدف من وجودها وآلية عملها الحقيقية.

في فترات تاريخية معيّنة، كانت ظاهرة التواصل مع عالم الغيب بجميع مظاهرها وأشكالها المختلفة، تعتبر مقبولة وتعدّ أساسية في الحياة اليومية للشعوب، بجميع مستوياتهم الاجتماعية والعلميَّة. وهناك فترات أخرى اعتبرت فيها هذه الظواهر غير طبيعية وغريبة عن المنطق البشري المألوف، واعتبر التعامل بها عملاً لا أخلاقياً أو ملحداً أو وثنياً. حتى أنها اعتبرت في إحدى الفترات جريمة يعاقب عليها القانون بشدة! فأعدم الكثير من ممارسيها حرقاً أو خنقاً، أو غرقاً، أو رجماً بالحجارة. وهناك فترات تعتبر فيها هذه الظاهرة مظهراً شاذاً أو مزعجاً من مظاهر الكائن البشري ! أو تصبح عبارة عن موضة أو صرعة يتحمّس لها الناس لفترة معيّنة ويتعاملون معها ثم يملَّون منها ويمضون إلى ملاحقة صرعات أخرى كما هو الحال اليوم.


تحضير الأرواح

السحر الشعائري والشعوذة
Ceremonial Magick and Sorcery

اقتباس من كتابات الماسوني الرفيع "مانلي بالمر هول" Manley P. Hall
"التعاليم السرّية لكل العصور" (1928)

".. إن معظم الكائنات المتجسّدة خلال جلسات تحضير الأرواح هي عبارة عن كيانات غير مادية تتنكّر داخل مجسمات أثيرية مؤلفة من محتوى فكري ينبع من الوسيط ذاته والذي يرغب في تحضير ومشاهدة هذه الكائنات غير المادية.."
مانلي بالمر هول

السحر الشعائري هو فن قديم يهدف إلى استحضار والتحكم بكائنات روحية عبر الاستعانة بتطبيقات علمية معيّنة ذات صيغة معيّنة ووفق منهج معيّن. الساحر، المرتدي لثوب مميّز حاملاً في يده عصا (صولجان) كما توصفه الصور الهيروغليفية، يستطيع من خلال قوة تكمن في بعض العبارات والشعارات والطلاسم أن يتحكم بالسكان غير المرئيين لعناصر العالم الخفي. بالرغم من أن السحر الشعائري الكامل المتأصل من عصور غابرة لم يكن بالضرورة شريراً، إلا أن عمليات التحريف والإفساد التي تعرّض لها ساهمت في بروز مدارس سحرية باطلة، زائفة، غادرة، كاذبة، وشريرة.. والتي أصبحت تُعلّم ما يُسمى السحر الأسود black magic.

مصر، التي كانت مركزاً عظيماً للمعرفة والتعليم والمولد الأصلي للكثير من الفنون والعلوم، وفرت بيئة مثالية للعمل في مجال الماورائيات واختبار العوالم المتجاوزة لحدود الإدراك. هنا بالذات، استمرّ المشعوذون (العاملين في السحر الأسود) الناجين من أطلنطس، في ممارسة الفنون المستثمرة لقواهم العقلية الخارقة حتى تمكنوا أخيراً من اختراق وتقويض وإفساد القيم الأصيلة للحكمة الأساسية. من خلال تأسيس طبقة كهنوتية فاسدة، اغتصبوا المناصب التي كان يحتلها المنتسبين الأساسيين للحكمة المقدسة، وبهذا سيطروا بالكامل على المراكز الحساسة في الحكومة الروحانية القائمة.

راح السحر الأسود يمثّل تعاليم دين الدولة مما سبب الشلل الكامل لكافة النشاطات الروحية والفكرية للفرد من خلال إرغامه بتقديم الطاعة والإذعان الكامل، دون تردد أو تفكير، للتعاليم الفاسدة التي صاغتها الطبقة الكهنوتية الفاسقة. أصبح الفرعون دمية في يد المجلس الفاسق والمؤلف من مجموعة من المشعوذين الذين ارتفعوا إلى مراكز السلطة بدعم ومساندة الكهنة.

باشر هؤلاء المشعوذون بعدها بعملية تدمير منهجي لجميع المفاتيح المؤدية للحكمة القديمة، ذلك لكي لا يتمكّن أحد من الحوزة على المعرفة الضرورية للوصول إلى مرحلة الاحتراف دون أن ينظمّ أولاً لنظامهم السرّي المنحرف. قاموا بإفساد وتشويه طقوس المعارف السرّية في الوقت الذي ادعوا فيه بصيانتها والمحافظة عليها، حيث حتى لو تمكن المنتسب إلى النظام من اجتياز الدرجات الأولى مرتفعاً إلى مستوى يخوّله حق الاطلاع على الأسرار المقدّسة سوف يعجز عن ذلك. تم إدخال الوثنية إلى تلك العلوم التطبيقية الراقية، وذلك من خلال التشجيع على عبادة التماثيل والصور (أصنام) والتي شيّدها الحكماء الأوائل كرموز وشعارات للدراسة ووسائل للتأمّل وتخزين الطاقة الحيوية.

وُضعت تفسيرات كاذبة لرموز وأرقام المعارف السرّية، ثم ابتُكرت أفكار ديينية منحرفة ومتشددة بهدف إرباك وتشويش عقول الأتباع. أصبحت الحشود البشرية، المحرومة من حقها الطبيعي في المعرفة والتنوّر، تحبو زاحفة.. متخبطة في ظلام الجهل إلى أن تحوّلت أخيراً إلى عبيد مذلولة تحت أقدام الروحيين المنافقين. سادت الخرافات في كل مكان وكل مجال دون استثناء، وسيطر المشعوذون بالكامل على شؤون البلاد، وكانت النتيجة أن الإنسانية لازالت حتى اليوم تدفع ثمن سفسطة الكهنة المشعوذين الأطلنطيين والمصريين، والأديان الشمولية حول العالم اليوم المُبتكرة من قِبلهم كوسائل فعّالة لاستعباد الحشود.

مع اقتناعهم بالكامل بأن النصوص المقدسّة سمحت به، كرّس العديد من القبلانيين (معتنقي الفلسفة القبلانية Qabbalists) في العصور الوسطى حياتهم لممارسة السحر الشعائري. يعتمد الفكر التجاوزي للفلسفة القبلانية على الصيغة السحرية القديمة للملك سليمان، والذي طالما اعتبره اليهود أمير السحرة الشعائريين.

من بين القبلانيين في العصور الوسطى هناك عدد كبير من السحرة المشعوذين الذين تاهوا عن المفاهيم النبيلة المتمثلة بـ"سيفر يتزرع" Sepher Yetzirah ( منهج قبلاني)... ووقعوا في شرك الشعوذة وعبادة الشيطان. عملوا على إتباع طريقة حياة شاذة مثل استخدام المرايا السحرية، الخناجر المقدسة المكرسة لغرض نبيل، الدوائر والطلاسم والخواتم.. إلى آخره، بدلاً من إتباع الحياة الفاضلة، الخالية من الطقوس الشاذة والتعامل مع الكائنات غير البشرية، والتي لا تتوانى عن رفع الإنسان إلى مرحلة الكمال.

إن الذين رغبوا في التحكم بأرواح "العناصر الأربعة" من خلال السحر الشعائري فعلوا ذلك على أمل الحصول من العوالم الخفية إما على معرفة غيبية أو قوى خارقة. "العفريت الأحمر" الصغير لـ"نابليون بونابرت" و"الرؤوس النبوئية" سيئة السمعة لـ"دي ماديتشي" de Medici هي أمثلة على النتائج الوخيمة التي ترتبت على أمثالهم نتيجة السماح لمخلوقات خفية لأن تملي على الإنسان مسيرته في الحياة.

لكن بنفس الوقت، فالعفريت الحكيم والمثقّف التابع للفيلسوف سقراط، والذي يُعتبر حالة استثنائية نادرة، يشير إلى حقيقة مهمة هي أن الطبيعة الأخلاقية والفكرية للساحر تلعب دوراً مهماً في نوع الروح التي يحضّرها. ومع ذلك، فحتى "العفريت" الذي كان يخدم سقراط تخلى عنه عندما حُكم عليه بالإعدام.

إن الوسائل الحالية للتعامل مع عالم الغيب وكافة أشكال الظواهر السحرية يمثّل دروب ضيّقة عمياء.. ثمار الشعوذة الأطلنطية. وبالتالي فإن الذين تخلّوا عن الدرب الفلسفي المستقيم واختاروا السير في هذا الدرب المنحرف لا بدّ في النهاية من أن يقعوا ضحايا حماقتهم وطيشهم. الإنسان الذي يعجز عن السيطرة على شهواته وميوله ليس مؤهلاً لأن يتعامل مع الكائنات الروحية الهائجة والعاصفة.

لقد خسر الكثير من السحرة حياتهم كنتيجة لفتح الباب أمام كائنات روحية للدخول والتحوّل إلى مشاركين فاعلين في شؤونه الحياتية. عندما استحضر "أليفاس ليفي" Eliphas Levi ما ظنه بأنه روح الفيلسوف "أبولونيوس التياني" Apollonius of Tyana، ما الذي كان يأمل في إنجازه؟ هل يمكن لإشباع الفضول أن يمثّل دافعاً كافياً ليجعل الفرد يكرّس كل حياته لخدمة مجال خطير وغير مجدي؟ إذا كان "أبوليونوس" قد رفض الكشف عن أسراره للدنيويين خلال فترة حياته، فهل يُعقل أنه سيكشف عنها بعد مماته للفضوليين الأرضيين؟

حتى أن "أليفاس ليفي" بذاته لم يجرؤ على الجزم بأن الروح التي حضرت أمامه كانت فعلاً لذلك الفيلسوف العظيم، لأنه أدرك جيداً بأن "العناصر" (القوى الفكرية المختلفة التي يُظنّ بأنها أرواح) لديها نزعة دائمة لانتحال شخصيات الذين ماتوا. إن معظم الكائنات المتجسّدة خلال جلسات تحضير الأرواح هي عبارة عن كيانات غير مادية تتنكّر داخل مجسمات أثيرية مؤلفة من محتوى فكري ينبع من الشخص الوسيط ذاته والذي يرغب في تحضير ومشاهدة هذه الكائنات غير المادية.

السحر الأسود بين النظرية والتطبيق
يمكن تفهّم بعض من جوانب النظرية المعقّدة وكذلك التطبيق العملي للسحر الشعائري من خلال استخلاص بعض النقاط الرئيسية من القواعد المُفذلكة التي يستند عليها.

أولاً: الكون المرئي لديه نظير غير مرئي، وهو من قسمين،المستويات العلوية التي يقطنها أرواح خيّرة وجميلة،والمستويات السفلية، التي هي مظلمة ومحظورة، ويسكنها الأرواح والشياطين الخاضعة لقيادة الملاك الساقط وأمراءه العشرة.

ثانياً: من خلال الإجراءات السرّية للسحر الشعائري، يصبح ممكناً التواصل مع هذه الكائنات الخفية والحوزة على مساعدتها في بعض من المشروعات البشرية الدنيوية. الأرواح الخيّرة تميل دائماً لمنح مساعدتها لأي مشروع يرغبه الساحر، بينما الأرواح الشريرة تخدم فقط الذين يضمرون الشرّ ويرغبون في التدمير والتشويه.

ثالثاً: من الممكن عقد اتفاقية أو حلف أو تعهّد مع الكائنات الروحية حيث يصبح بعدها الساحر لبعض الوقت (يتم تحديد مدته) سيداً آمراً لأحد هذه الكائنات.

رابعاً: يُمارس السحر الأسود الحقيقي بمساعدة كائن روحي شرّير، يخدم الساحر طوال فترة حياته، لكن وفق الشرط الموضوع مسبقاً خلال التعهّد والقائل بأن الساحر سيصبح خادم مطيع لكائنه الشرّير بعد مماته وانتقاله إلى الحياة الأخرى. ولهذا السبب يُلاحظ بأن العامل في السحر الأسود يذهب بعيداً في تجاوزه الحدود الأخلاقية والقيام بأي عمل ممكن لإطالة فترة بقاءه على قيد الحياة، لأنه يدرك جيداً بأن أمور كثيرة غير مستحبّة تنتظره بعد القبر.

إن أخطر أشكال السحر الأسود هو التحريف العلمي للقوى السحرية من أجل تحقيق غايات شخصية. إن الشكل العام والمُبسّط لهذا الأمر هو "الأنانية البشرية"، حيث أن الأنانية هي المسبب الأساسي لكل الشرور في العالم. فالإنسان مستعدّ لمقايضة روحه الأبدية مقابل "سلطة" دنيوية مؤقّتة، وعبر العصور الطويلة تطوّرت آلية غامضة مكنته من إجراء هذه المقايضة على الدوام.


البافوميت Baphomet، تيس "منديز" Mendes
تعتمد ممارسة السحر (أسود أو أبيض) على قدرة الفرد على التحكّم بالطاقة الحيوية الكونية، وهي تلك التي يسميها "أليفاس ليفي" بالعامل السحري العظيم أو الضوء الخفي. من خلال التلاعب بهذا الجوهر السيولي (الأيثر)، تتجسّد
الحالة المتجاوزة للمادة (ظواهر خارقة أو ماورائية). هذا التيس الهرمافروديتي hermaphroditic
(يتخذ شكل ذكر وأنثى)، أي تيس "مينديز"، هو مخلوق مُركّب تم تشكيله للتعبير عن ذلك
"الضوء الخفي" (الأيثر). إنه يشبه "البافوميت"، الإله المقدّس بالنسبة للمنتسبين
إلى مدرسة السحر الشعائري (الأسود)، "فرسان الهيكل"Templars،
والذينربما حصلوا على الفكرة من بلاد الشرق خلال فترة
الحملات الصليبية.

بين فروعه العديدة والمختلفة، يشمل هذا الفنّ الأسود كل أشكال السحر الشعائري تقريباً، بما فيه التنبؤ بواسطة استحضار الأرواح، الشعوذة، التجديف، وأخيراً شرب الدماء (خلال الطقوس الشيطانية). وتحت نفس العنوان، لدينا أسماء عصرية مثل المسمريةmesmerism، والتنويم المغناطيسي hypnotism، طبعاً هناك استثناء وحيد وهو استخدامهما لأغراض طبية علاجية، لكن رغم ذلك لازال هناك مخاطرة في الأمر.

رغم أن شعوذات العصور الوسطى بدت وكأنها اختفت إلى الأبد، إلا أن هناك دلائل وفيرة تشير إلى أنه، وفق أشكال متعددة من التفكير العصري، خاصة تلك التي يسمونها "فلسفة الازدهار"، "تنمية قوة الإرادة" ميتافيزيقياً، تعليم طرق التسويق التجاري "عالي الضغط"،... وغيرها، اتخذ السحر الأسود شكلاً جديداً واسماً جديداً لكن جوهره ومضمونه بقي هو ذاته.

كان الدكتور "جوهانز فاوستوس" Dr. Johannes Faustusساحر معروف جيداً من العصور الوسطى، وأشير إليه بشكل عام "الدكتور فاوست". من خلال دراسة المخطوطات السحرية تمكن من تسخير أحد "العناصر" الروحية، والذي خدمه لسنوات عديدة ووفق أشكال متنوعة. انتشر الكثير من الأساطير حول قدرات وانجازات الدكتور فاوست. في إحدى المناسبات قام هذا الفيلسوف، والذي كان مزاجه مرحاً في حينها، برمي عباءته فوق مجموعة من البيض الموضوعة في سلّة إحدى النساء البائعات في السوق، مما جعلها تفقس فوراً. وفي مناسبة أخرى، بعد وقوعه في الماء من على متن قارب صغير، تم انتشاله وإعادته إلى القارب وملابسه بقيت جافة تماماً.

لكن مثل باقي السحرة الآخرين، انتهى أمر الدكتور بكارثة قضت على حياته. لقد وجدوه مقتولاً في صباح أحد الأيام وسكيناً مغروساً في ظهره، واعتُقد بأن خادمه الروحي هو الذي قتله. رغم أن "الدكتور فاوست" الذي تحدث عنه الشاعر "غوثيه" يُعتبر بشكل عام أنه شخصية خيالية، إلا أن هذا الساحر كان حقيقياً وعاش فعلاً في القرن السادس عشر. ألف الدكتور "فاوست" كتاب يوصف فيه تجاربه مع الأرواح، والمقطع التالي مقتبساً منه: (وجب أن لا نخلط بين الدكتور "فاوست" و"يوهان فاوست"، مالك مطبعة).

".. بينما العامل في السحر الأسود الذي يوقّع حلفه مع عفريته "العنصر" يكون في البداية مقتنعاً بأنه قوي بما يكفي للسيطرة بالكامل على القوى الموضوعة تحت تصرّفه، لكنه سيكتشف لاحقاً بأن هذا مجرّد وهم. قبل أن تمرّ سنوات عديدة، سوف يضطرّ إلى توجيه كل قواه للاهتمام بموضوع المحافظة على الذات. فالعالم المرعب الذي لزم مصيره به نتيجة شهواته الدنيوية يقترب منه يوماً بعد يوم، حتى يصبح على حافة بحر هائج باضطراب عظيم، ويتوقّع في أي لحظة أن يسقط فيه ويُجذب إلى أعماقه العكرة..

.. خائفاً من الموت.. لأنه سيتحوّل إلى خادم لعفريته.. يبدأ الساحر باقتراف الجرائم، جريمة بعد جريمة، لإطالة وجوده الدنيوي البائس. مدركاً بأن الحياة مُصانة من قبل قوة حياتية كونية غامضة والتي هي من الخواص العامة لكافة المخلوقات، يتحوّل الساحر إلى مصاص دماء خفي، سارقاً هذه الطاقة الحياتية من الآخرين. حسب خرافات القرون الوسطى، كان العاملين في السحر الأسود يحوّلون أنفسهم إلى ذئاب werewolves ويجوبون الأرض ليلاً، مهاجمين الضحايا المساكين طمعاً بقوة الحياة الكامنة في دمائهم.."

Post a Comment

يمكنك التعليق على هذا الموضوع

Previous Post Next Post